جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 01-10-1433 07:02 PM
المحاجة
الحمدُ لله رَبِّ العالمينِ، والصلاةُ والسلامُ على المبعُوثِ رحمةً للعالمينِ، نبيّنا محمدٍ عليهِ وعلى آلهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ، أمَّا بَعد:
هذه الآيات التي لدينا الآن تتحدث عن محاجة إبراهيم عليه السلام النمرود، في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258] .
هذا الخطاب الذي أمامنا هو خطاب دعوة، وخطاب ردِّ شُبهةٍ، يحتاج إلى نمطٍ خاصٍ من أساليبِ القول، كما يحتاج إلى حُجة قوية، وكلمةٍ معبرّة، لأنَّه مذكور في سياق المحاجّة كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾، فذَكر المحاجة؛ وجعلها علماً لهذا المُجادل، فعرَّفَهُ بها فقال: ﴿الَّذِي حَآجَّ﴾، لما في المُحاجة المذكورة من الغرابة؛ وشدة الخروج عن المألوف، ولنا مع هذه المحاجة هذه الوقفات التي نبيّن فيها بعضَ مدلولِ هذه الآيات الكريمات.
أولاً: بدأت الآية الكريمة بهذا الاستفهام التعجبي، الموجه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واشتمل ذلك على ذكر الرؤية، فقال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، دون العلم؛ بأن يقال: ألم تعلم؟، للإشعار بأنَّه حدثٌ يستحق أنْ يُعايَن بالعين، كما أنَّه واضحٌ جليّ، كأنما يُنتقل فيه من نقلِ الخبر إلى صورة المعاينة والرؤية، ومع أنَّ المراد هنا هو الكلام والحجة، وهما يسمعان ولا يُريان، فلم يرد: ألم تسمع، بل قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ لما في استحضار الحدث من علاقة بنوعية هذا القول المذكور، فهذا جبارٌ ظالمٌ يحاور إبراهيم عليه السلام في ذات الله سبحانه، هذا المشهد لابد من استحضاره لحظة عرض الخطاب، لذا جاءت ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، دون ألم تعلم، أو ألم تسمع، وفي عرض القرآن لهذه المجادلة -رغم عدم منطقية الحوار فيها- دليلٌ على ضرورة فتح باب الحوار، وسماع وجهة النظر الأخرى، ثم بعد ذلك يقرر المحاور الاستمرار مع خصمه من عدمه.
ثانياً: جاء النص هنا على موضوع الحوار والخطاب فقال سبحانه وتعالى: ﴿فِي رِبِّهِ﴾، أي: في ربِّ إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك إيماءٌ إلى ضرورة توحيد أرضية الحوار قبل البدء في الحوار، وفي التعرض لعنوان الربوبية -خصوصاً في هذا المقام- تشريفٌ لإبراهيم عليه السلام، وإيذانٌ من أول الأمر بنصر الله له، لأنَّ التربية نوع من الولاية.
ثالثاً: قال سبحانه: ﴿أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾، هذا تعليلٌ لإقدام هذا المجرم على هذا الجُرم العظيم، أي أنَّه لأَجْلِ إنعام الله عز وجل عليه بالمُلكِ والسلطان، وكونه أولَ مَنْ ملك الأرض؛ ووضع التاج على رأسه – كما قيل-، فإنَّه تجرأ على هذه المحاجة الكفرية.
وفي النص على هذه العلة إشعارٌ بقلة اكتراثه بنعمة الله، إذ هو الذي أعطاه ذلك المُلك؛ وتلك النعمة، ومع ذلك جحدها، بل تجاوز الحد، وجادل في ذات الله.
رابعاً: بعد هذه التهيئة لخطاب إبراهيم عليه السلام، ومحاجته لهذا الطاغية، جاء كلام إبراهيم عليه السلام، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ﴾، وهكذا بدأ إبراهيم عليه السلام بالحوار، وهذا يُشعر الخصم بقوته عليه السلام في حجته، فليس هو بالمُحجم عن الكلام؛ بل هو مقدمٍ لإيمانه بما يقول.
خامساً: قدّم إبراهيم عليه السلام في كلامه كلمة ﴿رَبِّيَ﴾، وهي الفاعل المعنوي للفعل ﴿يُحْيِـي﴾، فالمُحيي على الحقيقة هو الله عز وجل، وذلك للرد على هذا النمرود الذي ادعّى حقاً لله، وجعله حقاً لنفسه، وهو مخلوقٌ ضعيف، فدلَّ هذا التقديم في كلام إبراهيم عليه السلام على الحصر، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: ربي وحده الذي يحيي ويميت، لا أنت ولا غيرك.
وفي ذكر الربوبية هنا ملمحٌ من ملامح الاعتراف بقَدْرِ الخالق سبحانه وتعالى، وأنه المُدبّر، وأنه المُعطي، ليستشعر هذا النمرود أنه ضعيف لم يخلق نفسه، بل خلقه العليم الخبير، وفي هذا استنهاض لمكامن الفطرة لديه؛ لعله يرعوي عن غيّه، كما نلحظ من ذكر الربّ دون أسماء الله الحسنى الأخرى؛ أنه عليه السلام مالَ إلى جانب اللين أول الأمر معه؛ علهّ أن يستدرجه إلى جادة الصواب، إذ هو يريد تذكيره بالمنعم عليه، وهو الربُّ سبحانه وتعالى.
سادساً: قال إبراهيم عليه السلام في حديثه معه: ﴿الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ﴾، فعرَّف الخالق سبحانه وتعالى بالموصول ﴿الَّذِي﴾، وجعل صلة الموصول الفعلين ﴿يُحْيِـي وَيُمِيتُ﴾، وكأنه يشير بهذا عليه السلام إلى أنه سبحانه هو المتفرد بهذين الوصفين، فهما لا يليقان إلا به سبحانه، وإنما ذكر هذين الوصفين خصوصاً لأنهما من القضاياً التي تظهر فيها قدرة الخالق؛ وعجزُ المخلوق، كما أن هذا النمرود قد ادعّى ذلك، وعرف إبراهيم عليه السلام عنه ذلك مسبقاً، وفي تقديم الإحياء على الإماتة ﴿يُحْيِـي وَيُمِيتُ﴾، إما لأنها الحالة الأعظم دلالة على القدرة، وإما لأنه أراد من أول الأمر الرد على مُنكر البعث، ومنهم هذا الملك؛ لأنَّ مَنْ يُحْيِي أول مرة؛ فهو قادرٌ على الإعادة ولاشك.
سابعاً: ردَّ النمرود على كلام إبراهيم عليه السلام بقول: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ﴾، فجاء بترتيب الكلمات ذاتها، فبدأ بالفاعل المعنوي (أنا)، ثم ذكر الإحياء والإماتة، لكنه لم يعرّف نفسه بالموصول، فلم يقل: أنا الذي أحيي وأميت، وذلك لأن هذا لا يكون (أي التعريف بالموصول) إلا لمن عُرف بهذا، واشتُهر بالصفة المذكورة بعد الموصول؛ حتى أصبحت كالعلمِ له، وهذا لا يكون إلا للهِ سبحانه وتعالى فيما يخص الإحياء والإماتة، وكل ما فَعله هذا النمرود هو الإدعاء، ولم يكن له من رصيد الواقع شيء، بل إنِّه قد بنى كل ذلك على مغالطة سخيفة ينكرها كل عاقل، إذ زعَم أنه يعمد إلى من حَكَم عليه بالموت فيعفو عنه، وإلى بريء فيقتله، وفي تقديم الفاعل المعنوي (أنا) إشعارٌ بإرادته التوكيد على قدرته على المنافسة فيما أورده إبراهيم عليه السلام، وليس المقصود هنا هو الحصر، بل التقوية والتوكيد؛ لأنَّه أراد إثبات الشراكة، أمَّا أنَّه الوحيد الذي يحيي ويميت، فهذا مالا يستطيع إدعاءه ولو فعل، لأنَّه هو في ذاته مخلوقٌ ضعيف.
ثامناً: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾، نلحظ هنا أن إبراهيم عليه السلام قد عَدل في محاورته لهذا الطاغية؛ عن المُضي في نقض حجته التي ذكرها، لأن اعتراض ذلك الطاغية في هذه المرة لم يكن مما تقبله العقول، ومصدره إنما هو المكابرة والمعاندة، وليس هناك فائدةٌ في الاستمرار معه، ومَنْ هذا شأنه فلا يَحسُن الاستمرار معه في جدالٌ عقيم، لأنَّه لا يقيم لقوانين العقل ولا المنطق وزناً، ومَنْ كان هذا حاله؛ فلا فائدةَ في جداله، بل الأحسن إفحامه بحجة دامغة لا يستطيع ردها، ولعل هذا ما جعل إبراهيم عليه السلام يختصر هذه المحاورة، فلم يَطْرق فيها جوانب متعددة، بل رأى أنه من الأحسن هنا أن يذكر حجةً تُسكت المجادل، فقال: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾، وهنا انتقال مما يمكن لهذا الطاغية أن يجادل فيه، ولو بفهمٍ سقيم، وتأويلٍ مردود، إلى مالا قدرة له على ادعائه بأي صورة من الصور، لبُعد هذه الكواكب عنه، وعدم قدرته على التصرف فيها، أو التأثير فيها، أو حتى الإيهام بذلك كما فعل أولاً.
تاسعاً: جاء لفظ الجلالة ﴿اللّهَ﴾ دون اسم الربّ كما مر سابقاً؛ لأنِّ الموقف هنا هو موقف رد على إدعاء سافر، لم يَقْدُر صاحبه الخالقَ سبحانه وتعالى حق قدره، كما أن الموقفَ موقفُ إظهارٍ لقدرة الله، وهنا يكون اسم الجلالة ﴿اللّهَ﴾ أعظم دلالةً، وأكثر تربيةً للمهابة والإعظام، أما في أول المحاجة، فلم يكن هناك ذكر لكلام هذا النمرود؛ لهذا كان عليه السلام ليِّّناً معه، لعله أنْ يثوب إلى رشده.
﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾، أخبر عليه السلام بخبرٍ في هذه الآية، وفي هذه الجملة بخبرٍ لا مجال له في دفعه، وهو أن الخالق سبحانه وتعالى يأتي بالشمس من جهة المشرق، فإن استطعت أيها المعاند أنْ تأتي بها من جهة المغرب فافعل، وكان هذا الأمر بالنسبة له كالمفاجأة؛ لأن الموقف يتطلب منه أن يُحدث ذلك في الحال، ولمّا لم يكن له قدرة؛ لضعفه وعجزه، سكت، وفوجئ، واُسقط في يده، وجاء ما يصوّر ذلك بوضوح في قوله تعالى: ﴿فَبُهِتَ﴾، وذكر الموصول في قوله تعالى: ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾، وجعل الكفر صفة له ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾ للإشعار بعلة هذه النتيجة؛ وهي أنه كافرٌ، حائدٌ عن الحق، لذا جاء ختام هذا الحوار ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، وفي ذلك بيان أن جحد الحق، والكفر بالله من الظلم العظيم؛ لأنه صرفٌ لحق الله عز وجل إلى غيره، وهذا هو الظلم، لذا قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان:13] .
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|