جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 01-06-1433 08:53 PM
عاشوراء والحفظ الرباني*
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فقد جاء في صحيح البخاري، أنه صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة، واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم تصومونه؟" فقالوا: هذا يومٌ ظهر فيه موسى على فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا".
وقد سُئِل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" [رواه مسلم].
وقال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهرُ الله الذي تدعونه المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل" [رواه مسلم].
معاشر الكرام، ماذا نفهم من هذه النصوص العظيمة؟ ألا نفهم عزًّا وتمكينًا ونصرًا وتأييدًا، لأن يومَ عاشوراء يومٌ ظهر فيه موسى على فرعون؟ ألا نفهم من ذلك فضلَ الله وعظمَ منّته علينا؛ لأنه جعل صيامَ يومٍ واحد يكفّر ذنوب سنة ماضية؟
ألا نفهم من ذلك أنّ هذا اليوم قد جاء في شهر عظيم القدْر، إنه شهر الله المحرّم، أحدُ الأشهر الحرم التي قال الله عنها: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36]، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثٌ متواليات: ذو القَعدة، وذو الحِجّة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" [متفقٌ عليه].
معاشر المؤمنين، إنّ هذا اليوم العظيم (عاشوراء) الموافق للعاشر من هذا الشهر العظيم (المحرَّم)؛ ليذكّرنا بنصرٍ عظيم، وآية عظيمة، وحدث عظيم، تتجلى فيه صور حفظ الله ورعايته لأوليائه.
لقد أنجى الله فيه موسى من فرعون وجنودِه، وحفظه رضيعًا ورسولاً، إنها سلسلة طويلة من الأحداث التي يظهر فيها ضعف المخلوق، وقوةُ الخالق، لقد تجبّر فرعون، وادعى الربوبية وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، وتراه مع ذلك يخاف من صبي يولد؛ يُقوِّض ملكَه، ويسلبُ عزّه، فتراه يسرف في القتل، ويبالغ في الطغيان، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص : 4].
لقد أحال مملكته إلى مجزرة كبيرة، تُراق فيها دماء الأطفال في جريمة لم يسجِّل التاريخ مثلها، ولمّا كاد أن يفنى بني إسرائيل قيل له: لم يبق أحد، فأمر بالقتل سنة، والعفوِ سنة، فوُلد هارون عليه السلام في سنة العفو، وموسى عليه السلام في سنة القتل، ليعلم فرعون وغيره من طغاة الأرض؛ أنّ الأمر لله من قبل ومن بعد.
لقد حفظ الله موسى من القتل، وأعمى عنه العيون، وأوحى إلى أمه ما يكون فيه نجاته، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7].
يا لها مِن آية ما أعظم مدلولها، لقد اختزلت حياة هذا الرضيع المهدد بالقتل، اختزلتها من الوضع إلى الرسالة، بدأت بـ﴿أَرْضِعِيهِ﴾، وانتهت بـ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ في إيجاز لطيف، وإعجاز عجيب.
وهكذا تتوالى مظاهر الحفظ والنصرة لهذا النبي الكريم، حَفِظه ربُّه وهو في صلب أبيه، ثم في بطن أمه، ثم لما وضعته، لقد ألقته بأمر الله في الماء السيَّال؛ لكن بعد ما أرضعته، ليكون ذلك سببًا في عودته إليها، وليألَف لبن أمه، فلا يرضى بغيرها، وليتقوّى به مدة، وليشتد به جسدُه، وليكون أكثر ارتباطًا بأمه وتعلّقًا بها.
ما أعظم عناية الله وحفظَه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، تُلقِيه أمه في الماء بأمر الله، وينقل الماءُ الصغيرَ بأمر الله؛ لأنّ المُلكَ ملكُه، والأمرَ أمرُه، وما نحن إلاّ بشرٌ مساكين، إذا أراد سبحانه جعل هذا الماء مسخّرًا لنا، فانتفعنا به، وإن أراده عذابًا أغرقنَا به، وتأملوا -يا كرام- كيف كان الماء هو سبب نجاة موسى عليه السلام، وهو ذاته سببُ هلاك فرعون، فسبحان من هذا مُلكه وحُكمه وتقديره!
تأمل تلك الأوامر الربانية لمخلوقاته -جلّت قدرته- في حفظ موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾ [طه: 36 - 39]، يُؤمَر اليمّ بإلقاء موسى بالساحل، لا بإغراقه، ويُؤمر البحر بإغراق فرعون فيغرقه، فسبحان الله العظيم!
بدأت حياة موسى بالماء، وانتصر بالماء، وُضع في اليم رضيعًا، وانفلق له البحر رسولاً، طاف على وجه الماء رضيعًا، ومشى على يبس البحر رسولاً ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى﴾ [طه: 77].
إنه حفظ الله، إنه تقدير الله، فكن مع الله يكن الله معك، فليس أحدٌ أضعفَ من رضيعٍ في ماء، ولكن المنجيَ هو الله، والمقدِّرَ هو الله، يُبَشِّر الله أمَّ موسى وهي في قمة خوفها بالرسالة لابنها فيقول جلّت قدرته: ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وهذا ما لا يكون في مقدور البشر.
ولما وصل الرضيع إلى قصر فرعون، أخذه عدوُّه كما قال سبحانه: ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ [طه: 39]، يا له مِن موقف، يا له مِن حدث، أمّه تخفيه عن جنود فرعون، والماء يسوقه بتقدير الله إلى فرعون نفسِه، وما يكون فرعون إذا كان الحكم لله ، ما يكون فرعون إذا كان الأمر لله! ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]، وهنا يعطف الله قلبَ امرأةِ فرعون لتكون هي المدافعة عن هذا الرضيع، ولتكون في مقام أمّه، مَنْ كان يتخيّل أن يوجد في قصر الطاغية فرعون مَن يكون نصيرًا لموسى عليه السلام وهو رضيع؟ ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: 9]، ونهيها هذا يدل أنّ الأصل هو القتل، وأنّ القرار هو القتل، لكنّ حفظَ الله أسبقُ وأسرع ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [القصص: 9].
تأملوا -معاشر المؤمنين- إلى هذا الحفظ الربّاني لموسى عليه السلام، وماذا فوق البُنُوَّة؟!
إنّها الحالة الوحيدة التي يُسخر لها الوالدان كل ما لديهما مِن أجل ولدهما، فموسى الآن بمنزلة الولد، وهذا يعني أنّ كل ما في القصر مسخّرٌ في خدمته، فسبحان مَن هذا تقديره، كانت أمّه تخفيه عن العيون، وتخاف عليه من الجنود، وها هو الآن ظاهرٌ للعيان، والجنود يحيطون به، لكنْ هذه المرة ليحرسوه، لا ليقتلوه!
ولتكتمل النعمة، ويعظم الحفظ؛ يعود الرضيع إلى أمّه، قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 12، 13].
نعم، إنّه وعد الله الذي ينبغي أن نثق به، ونعتمد عليه، إنه وعد الله لا وعد البشر، إنه وعد الخالق لا وعد المخلوق، إنّ الله ناصرٌ أولياءه، ومعزٌّ دينه، ولو كره الكافرون.
اللهم كن لنا هاديًا ومؤيّدًا ونصيرًا، اللهم رد عنا كيد الفجار، وشر الأشرار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فما زالت صور الحفظ والتأييد تتوالى في قصة موسى عليه السلام، فقد أنجاه الله من فرعون بعد ما قتل منهم نفسًا، وخرج من المدينة خائفًا يترقّب، وأنجاه الله من خوف العصا لمّا رآها تهتز كأنها جان، وجعلها آية أيّد بها دعوته، وأنجاه من السحرة، فقلب سحرهم وكفرهم إلى إيمانٍ وشهادة، وأنجاه سبحانه من كيد فرعون وجنوده، لمّا طاردوهم عند البحر، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 61 ، 62]، فأمره الله بضرب البحر، فضربه فانفلق؛ فكان كل فرق كالطود العظيم، وأغرق الله فرعون وجنودَه، وذهب جبروتُه وظلْمُه، وتكبُّرُه، وبقي المُلْك لصاحب الملك، لله الواحد القهار.
وأنجى الله موسى من فرعون وجنودِه، ومن الغرق، ولأجل هذه النعمة وذلك النصر؛ يصوم المسلمون هذا اليوم العظيم شكرًا لله على ذلك.
إنه يوم سرور وعزة بنصر الله، يوم شكر وعرفان، ومن سفه العقول أن يتحوّل هذا اليوم كما عند الرافضة إلى يومِ دماءٍ وعويلٍ وصراخ.
اللهم اهدنا بهداك، وأغننا بغناك، اللهم انصرنا بنصرك، وأيّدنا بتأييدك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
________________________________
* خطبة للشيخ د. عويض بن حمود العطوي، ألقيت في جامع البازعي بتبوك، 8/1/1431هـ.
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|