كيف نبدأ عامنا؟*
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فهذا يومنا الأول في عامنا الجديد، أمس كنّا في عام، واليوم نحن في عام، فهل وقفنا مع أنفسنا قليلاً قبل أن ينفرط العقد، وتبدأ خرزاته بالتساقط؛ واحدة تلو الأخرى؟
أيها المؤمن المبارك، الوقت لن ينتظرنا، ولن يقف من أجلنا، فالنَّفَس الذي خرج قبل ثوان، لن نستطيع إرجاعه، وعامُنا الذي انصرم أمس لن نقدر على إعادته، أو تمديده، ففكر من يومك هذا بآلية معينة، و تنظيم خاص، لاغتنام ساعات وأيام هذه السنة المقبلة، واعلم أن الكتبة فيها مستعدون للكتابة، و المقاديرَ فيها محسومة، فكُن أنت على استعداد، ابدأها بصفحة جديدة، بيضاء نقية امسح سواد ما سبق بتوبة نصوح، غيّر حياتك، جدّد حياتك، نور حياتك، بالعمل الصالح المثمر, والإنتاج الباني، هيا بادر ساعات العمر, وهي سانحة، فإن الزمن سريع الانقضاء وما مضى منه لا يعود.
وما بين ميلاد الـفتى ووفـاته =إذا نصح الأقوام أنفسهم عمر
لأن الذي يأتي شبيه الذي مضى =وما هو إلا وقتك الضيق النزر
ونحن مسافرون على مطايا الأيام والليالي، كيف يسير مسافر بلا زاد ولا ماء؟ أما تيقنت -يا مؤمن-أنك منقول على مطايا الزمن في سفرك إلى الله، الذي أول منازله المهد وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار, والعمر مسافة السفر الذي تحاسب عليه، وسنواته مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الملك الكريم، في النعيم المقيم، وخسرانه البعد عن الله مع الأنكال والأغلال, والعذابُ الأليم وبين الأهوال، فيا مؤمن إياك ثم إياك أن تفرط في نفس من أنفاسه، وتذكر أنك تقضي كل عام أكثر من ثلاثين مليون نَفَس من أنفاس عمرك، يقضيها بعضانا فيما لا نفع فيه، أناس سبهللا لا يعرفون هدفاً، ولا يرسمون غاية، ساعات على الشاشات، ومثلها على الألعاب والمغريات، ومثلها مع الأغاني والملهيات، ثم لا تسل بعد ذلك عن نوم طويل، وعجز وكسل،، شباب نومهم أكثر من عملهم، حياة راكدة كالمياه الآسنة، سبحان الله ما أعظم الفرق بين من يحسب الثانية، ومن لا يقيم وزنا للسنة، قيل لأحد السلف تعال لنتحدث قال: "أوقف الشمس".
هذا حماد ابن سلمة ذُكر عنه أنه لو قيل له: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، أما نحن فما أكثر التقصير وما أعظم التفريط، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي".
يا عبد الله، خذ بهذه الوصايا الخمس التي قد تعين في الإفادة من هذه النعمة العظمى:
أولاً: ضع أمامك دائماً هذه العبارات: ثواني الوقت هي الأنفاس، الوقت هو حياتي, الوقت لا يتوالد، ولا يتمدد، ولا يتوقف، ولا يتراجع، رأس المال هو العمل الصالح.
ثانياً: كن ابن وقتك، واعمل جهدك في ساعتك، فلا تيأس بسبب ما مضى، ولا تسوّف أملاً فيما سيأتي.
ما مضى فات والمؤمل غيب *** ولك الساعة التي أنت فيها
وتذكر أن العمل على قدر الطموح والهمة، ومن طلب الراحة لم ينل الراحة.
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها *** تنال إلا على جسر من التعب
فلا بد أن تكون مطالبك عليه، واهتماماتك سنية: يقول إبراهيم الحربي: "لقد صحبت أحمدَ بنَ حنبل عشرين سنة، صيفاً و شتاءً، و حراً و برداً، و ليلاً و نهاراً، فما لقيته في يوم، إلا و هو زائد عليه بالأمس"، تلك و الله هي المنارات السامقة، و الهمم العالية.
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
ثالثًا: كن دائم المحاسبة والتدقيق، نهاية كل يوم، وأسبوع، وشهر، وسنة، انظر إلى الحسن البصري –رحمه الله– يبكي ذات ليلة حتى أبكى جيرانه، فيأتيه أحدهم الغداة فيقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا، فيقول له: إني قلت يا حسن لعل الله نظر إليك على بعض هناتك فمقتك و قال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئا.
بهذه الحساسية كانوا يعيشون، و بهذا العمق الإيماني كانوا يهنأون، كانوا لا يعرفون فراغًا، و لا ينعمون براحةٍ دون الجنة، تقول فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز: "كان قد فرّغ للمسلمين نفسه، و لأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ منه من حوائج يومه، وصل يومه بليلته"، و يقول له بعض رفاقه القدماء: لو تفرغت لنا، فيقول: "و أين الفراغ؟ ذهب الفراغ، فلا فراغ إلا عند الله".
قلب يطل على أفكاره، و يد تُمضي الأمور، و نفس لهوها التعب، وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: " عند أول قدم يضعها في الجنة "، تلك هي نهاية السباق، و عندها تكون الراحة، أما حالنا نحن فهو الأمل الطويل، و الأماني الكاذبة، و التسويف الخادع، و حالنا كما قال القائل:
فالناس في غفلاتهم *** ورحى المنية تطحن
يضحك أبو الدرداء – رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم متعجباً من ثلاثة: "مؤمل دنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه، و ضاحك بملء فيه و لا يدري: أأرضى الله أم أسخطه".
رابعاً: عوّد نفسك على الانضباط والتنظيم، فبدونه لن تعمل شيئاً, جرب ذلك ولو لأسبوع واحد, وانظر حجم الإنتاج، واعلم أن شعائر الدين كلّها جاءت لتنظيم الوقت، قال بعض السلف: الصلوات الخمس ميزان اليوم والجمعة ميزان الأسبوع ورمضان ميزان العام والحج ميزان العمر، وتذكر أن ابن عقيل الحنبلي لما استثمر حياته، وأَطَر نفسه على ما أراد نجح حتى ألف من الكتب ما يهول العقل، يكفي أن تعلم أن كتاباً واحداً له اسمه (الفنون) بلغ مائةَ مجلد، ومن تنظيم الوقت أن تعمل بطريقة أذكى لا بمشقة أكبر، اجعل هذا شعاراً لك، وهذا يتطلب منك دائماً تفكيراً ولو لدقائق فيما ستقوم به، فالزيارة مثلاً لأحد الأقارب في حي (ما) يمكن أن تجعل معها زيارة لمكتبة على الطريق، وشراء بعض الحاجيات من المحلات المجاورة، والسلام على صديق في المسجد، وزيارة مريض، وهكذا.
أيها المؤمن بربه، بادر من اليوم بجمع أفكار والتخطيط لعامك الجديد، حوِّل أفكارك إلى مشروع مكتوب، كفانا تضييعا لأوقاتنا، هذا عام مضى، وهذا آخر أتى، الزمن يمضي بنا ونحن واقفون، الزمن لن ينتظرَنا، فلم نحن ننتظر؟
خامساً: استثمر وقتك، وضاعف عمرك، ستقول وكيف؟ نقول لك بالحرص على الأعمال ذات الأجور المضاعفة مثل التسبيح والذكر والقرآن، والصلاة في المسجد الحرام، والسعي في خدمة الأنام، أرأيت أيها الكريم لو استفدت من الدقائق المضيعة في قيادة السيارة أو الانتظار لحاجة، في ذكر خفيف على اللسان كم ستكسب من الأجور، فمن قال (سبحان الله) مائة مرة كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف خطيئة، هذا الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- يستفيد من وقت ذهابه إلى المسجد وإيابه، وكانت تقرأ عليه الكتب والمتون وهو يمشي، وراجع فيه القرآن عدة مرات.
وتأمّل كم سيزيد العمر الإنتاجي لمن صلى يومًا واحدًا في الحرم المكي، وكل صلاة هناك بمائة ألف صلاة فيما سواه؟ إنه كمن عاش مئتين وسبعين سنة، وكذلك احتساب الأعمال العادية والوظيفية بل والنوم عند الله عز وجل, كما قال الحسن البصري عن عمر ابن الخطاب: "ما ظننت عمر خطا خطوةً إلا وله فيها نية"، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : "إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" وكذلك الأعمال اليسيرة مثل الابتسامة، والكلمة الحسنة، وإماطة الأذى، وركعتي الضحى فكلها صدقات عظيمة وأجور كبيرة، وكذلك الأعمال التي يبقى أجرها بعد الموت، كالولد الصالح، والعلم النافع، والصدقة الجارية، والرباط في سبيل الله، وبهذا تبني لك أعماراً أخرى، وتستثمر الزمن وتضاعفه، فبدل أن تخسر تكون قد ربحت،.ولا تنس التوبة تجب بها مامضى لتستقبل عامك هذا وأنت نظيف طاهر:
فيا رب مالي غير لطفك ملجأ =و لعلني عن بابه لا أُطـرد
يا رب هب لي توبة أقضيـها =ديناً عليّ به جلالك يشــهد
أنت الخبير بحال عبدك إنــه =بسلاسل الوزر الثقيل مقيـد
أنت المجيب لكل داع يلتـجي =أنت المجير لكل من يستنجد
من أي بحر غير بحرك نستقي =و لأي باب غير بابك نقصد
اللّهم اغفر لنا ما مضى، ووفقنا لطاعتك فيما بقي، اللهم اجعل أعمارنا في طاعتك، وخذ بنواصينا إلى هداك، اللهم اجعل هذا العام علينا عام خير وبركة وهناء، اللهم زدنا فيه تقى وهدى، و عفافاً و غنى، و أظهر فيه دينك، وعبادك المؤمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
_______________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فبقي أمر مهم لا بد أن تعتني به أيامك هذه وهو تحديد الأهداف، ماذا تريد أن تحقق في هذا العام الجديد؟
يا أيها المؤمن، إن من يعيش بلا هدف، لكم يمشي بلا هدى، يَضِيع وقتُه، ويَتعب جسدُه، ولا يصل إلى مرغوبِه، وها نحن في أول العام، وهي فرصة سانحة أن تحدد أهدافك خلال هذا العام، ما أمنياتك، ما تطلعاتك، ما برامجك، ما رؤيتك، ولا تنسَ أسرتك ونفسك ودينك، اجمع كل ذلك وضعه في صورة أهداف لها زمن تقريبي يمكن أن تتحقق فيه، وراجع تلك الأهداف شهريا وعدل مسارك وعلاقاتك في ضوء ذلك، وحاول أن تفرق بين ما يخص الضروريات (كأداء الفرائض، والأكل والشرب والنوم، والعلاج، والنكاح، وبين ما يخص العلاقات كالزيارات، واستقبال الأصدقاء، وما يخص النزهات والاستجمام، وما يخص الطوارئ، كالمناسبات والضيوف والحوادث والأمراض، والأزمات)، ويمكن أن يساعدك في ذلك ما يعرف بمربع الزمن فتحدد فيه كل ذلك بحسب أهميته، وزمنه، وهو أربعة أقسام: (مهم مستعجل، مهم غير مستعجل، غير مهم وغير مستعجل، غير مهم لكنه مستعجل).
إنك إن فعلت ذلك بدأت بالخطوة الصحيحة، وإياك واستعجال الثمر، فمن طلب شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، واحذر من عوائق الوقت وقطاع طريقه، وهي ثلاثة:
التسويف، وكثرة الخلطة، والنوم، وعلامة الأول: كثرة قولك: (سوف)، و (لعل)، فيا أخي، حاول ألا تقول (سوف)، ولا (لعل)، فإنها مطية إبليس، بل إذا عزمت على مشروع نافع أو عمل صالح؛ فتوكل على الله، واعمل على قدر الزمن الذي أنت فيه, ولو للحظة.
وكن صارماً كالوقت فالمقت في (عسى) *** وإياك (علّ) فهي أخطر علة
ابدأ أول خطوة ولو كانت يسيرة، وتذكر أن لكل وقت ما يملؤه، فالثانية لها ما يخصها، وكذلك الدقيقة وكذا الساعة، ولتعلم -أيها الفاضل- أن الأعمال الآن أصبحت تنتج في جزء من الثانية، فكيف بالأيام والشهور والأعوام.
وأما كثرة المخالطة، وخصوصاً مع أهل الدنيا، فإنها تنسيك الآخرة، لأنهم يوسعون الأمل، ويُنسون الأجل، فالواحد منهم قبر يسعى إلى قبر مثله، زَمِنٌ يقود زمَْنى مثلَه، ولكن عليك بأهل الآخرة، عليك بحلق العلم والذكر، عليك بأهل الجد والعمل، بأهل النجاح والتفوق.
كان ابن الجوزي يشغّل البطالين عنده ببري الأقلام، وتصفيف الورق، حتى لا يضيع العمر دون فائدة.
وثالث العوائق هو النوم: سبحان الله كيف ينام من ضيع حق الله ولم يؤد ما عليه، وما أكثر من ثقلت رؤوسهم وأجسادهم عن بلوغ المساجد في الصلوات، ما جعل الله النوم سبباً لترك الواجبات، وتضييع الأمانات، لكن جعله الله سبباً للراحة لمعاودة العمل والمعاش وطلب الرزق.
كيف ينام من عليه واجبات لم يؤدها، من لديه أهداف لم يحققها، كيف تنام أيها الفاضل وغيرك يعمل، ينجح، يتطور، الزمن لنا كلُّنا، من عمل فيه أثمر، ومن نام فيه خسر، إن كنت قد نمت سنوات، فاجعل هذا اليوم هو انطلاقتك نحو العمل، والإنتاج، والتأثير، وتذكّر أن الزمن يؤثر فيك، فهل أثّرت أنت فيه؟
اللهم أملا بالبركات أعمارنا، واختم بالصالحات آجالنا، واجعل يوما خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله، بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
________________________
* خطبة للدكتور عويض العطوي، ألقيت بجامع البازعي بتبوك، الجمعة الموافق 1/1/1431هـ.