جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 01-06-1433 08:31 PM
إنّ أول بيت*
(الحج)
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فمن عجيب أمره؛ أنه بيتٌ في صحراء، لا ماء ولا شجر، ومع هذا يَؤمّه الملايين، وتهوي إليه أفئدة الناس أجمعين، لا يوجد مكان يشبهه في سِماته الجاذِبة، ذَكَر الله أوصافه، وبيّن سبحانه خصائصه، بقوله جلّت قدرته: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 96، 97].
معاشر المؤمنين، أعرفتم ذلك البيت؟ إنه البيت الحرام بمكة المكرمة، عجيب والله أمره، فقد قدّر الله أن يكون في صحراءَ مقفرة، ليس فيها نهر جارٍ، ولا شجر وارف، ولا بساتين غنّاء، بل جبال شاهقة، وحرارة لاهبة، حتى لا يبقى من أسباب الجذب المادية شيء، وحتى تتجلى قدرة الله في صرف قلوب العالمين إليه.
معاشر المؤمنين، ها نحن نرى الاستعدادات لحج بيت الله الحرام هذا العام، وبعضنا قرر أن يكون من حجاج بيته، وبعضنا ما يزال يراوح خوفًا ووجَلاً، أو تهاونًا وكسلاً.
معاشر المؤمنين، تعالوا اليوم لنعيشَ مع بعض آيات الحج، ونرى كيف رغّب الله فيه، وكيف دعا سبحانه الناس إليه، ربما لم يتنبّه بعضنا لهذا؛ لأنه ألِف سماع الآيات، فلم يفكر في معانيها، أو يستحضرْ دلالاتِها.
قبل أن يوجب الله هذا الركن، عرّف سبحانه بالمكان، فذكر له خصائص خمسة، هي الواردة في الآية السابقة ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾.
فذكر سبحانه الخصيصة الأولى: أنه أول بيت وُضع للناس، فهو أسبق بيوت العالم في الأرض، والأولية لها مدلولها وشأنها كما لا يخفى.
والخصيصة الثانية: أنه مبارك، أي: كثير الخير، فليس هناك بيت أبرك منه، ولا أكثر خيرًا، ولا أدوم فضلاً، ولا أنفع للخلائق، رغم كونه بين هذه الجبال، ووسط هذه الصحراء، فسبحان مَن هذا تقديره وتدبيره.
وهذا دليل -يا كرام- أنّ البركة ليست بالضرورة أنْ تكون في الملموس المحسوس، مما تراه العين، أو تستمتع به النفس، بل البركة في أثر ذلك وتأثيره، فرغم الحرارة العالية، والمسافات البعيدة، إلاّ أنّ القلوب متجهةٌ إليه، ومشتاقةٌ لوصوله.
يحن إلى أرضِ الحجاز فؤادي *** ويحدوا اشتياقي نحو مكة حادي
الخصيصة الثالثة: أنه ﴿هدى﴾. فوصفه الله بالمصدر (هدى)، ولم يقل: هاديًا؛ تدليلاً على عظم الهدى فيه وبسببه، فكأنه الهدى بعينه، فعجيب أنْ يكون الهدى بين أيدينا، وفي أرضنا، ثم تزهد فيه نفوس، وتتراجع عنه همم.
كم قصده من عاصٍ فبدّل الله حالَه، وكم زاره مِن مسرفٍ فعاد على خيرِ حال، وكم طاف به صاحب قلبٍ مريض؛ فعاد نظيفًا نقيًّا، يملأه الإيمان والصفاء، إنه هدى، ليس للمؤمنين فحسب، بل للعالمين، كما أخبر بذلك خالق الناس أجمعين.
ولعل في هذا التعميم العجيب مع الهدى ﴿هدًى للعالمين﴾؛ إشارة إلى أثر هذا البيت في هداية الناس أجمعين؛ لذا فعلى المسلمين أن يستثمروا هذه الخصيصة العجيبة في هذا البيت لهداية العالمين، وكم رأينا وسمعنا عن إسلام كفارٍ؛ بعدما شاهدوا البيت العظيم عبر الشاشات، وبقي دور المسلمين في استثمار هذه القوة في هذا البيت العتيق لدعوة الآخرين لهذا الدين، ولا عجب، فهو هدًى للعالمين، والعالَم: كل ما سوى الله.
الخصيصة الرابعة: فيه آيات بيّنات، ذكر ابن القيم أنه تضمّن ما يزيد على أربعين آية، وقد تكون تلك الآيات أحدَ أسرارِ هدايته، لذا وصفها الله بالبينات، أي: الواضحات، وبيّن سبحانه من تلك الآيات مقامَ إبراهيم، لِمَا له عليه السلام مِن شأنٍ في هذا البيت، أَوَليس هو الذي قال الله في شأنه: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ [الحج: 26]، وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: 127].
جعل الله مقامه عليه السلام أحدَ آياتِ هذا البيت، ذلك أنّ إبراهيم -عليه السلام- هو داعية التوحيد، وقد ارتبط به بناء البيت وحجُّه، فهو المؤذن به، فحتى يستمر الاقتداء به -عليه السلام-، أمَرَنا ربُّنا فقال: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125].
وكان عمر -رضي الله عنه- بما آتاه الله من الفراسة يقول الرأي، وينزل القرآن موافقًا له، ومن ذلك أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لو اتخذتَ مِن مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾.
الخصيصة الخامسة: الأمن لمن دخله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، وهذه مِن أظهر الخصائص؛ لأنها ملموسة لكل مَن قصد هذا البيت العظيم، والأمْنُ هو مطلب كل إنسان، بل هو مِن أجلّ النعم على بني آدم، فسبحان مَن أوجد فيه كل هذا الأمن، مع كثرة الأعداد، وتنوع الأجناس، وتباين المصالح، وشدة الأرض وصعوبة الجبال.
معاشر المؤمنين، لقد اقتضت حكمة الله أنْ تَسْبِق هذه الخصائصُ العجيبة؛ إيجابَ الحجِّ على الناس، حتى تتهيأ النفوس وتشتاق إلى ذلك المكان، فإذا سمعت الإيجاب؛ سهلت عليها الإجابة، ولو مع مشقة الطريق، وبعد المسافة، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك مباشرة: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
معاشر المؤمنين، يا مَن تتشوق نفوسهم إلى البيت الحرام، تأمّلوا في طريقة إيجابه، فقد اختلفت عن غيره؛ لأن الحج حدث عظيم، إنه حدث يتعدى الأفراد ليكون للأمة كلِّها، بل للناس أجمعين، ولهذا تكرر مع كل أحداث الحج ذكر كلمة (الناس) دون المؤمنين، أو المتقين.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومن فوائد الآية وأسرارها: أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه، يذكره بلفظ الأمر والنهي، وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتاب والتحريم، نحو ﴿كُتب عليكم الصيام﴾، ﴿حرمت عليكم الميتة﴾، ﴿قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم﴾ وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكيد الوجوب من عشرة أوجه:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
أولاً: أنه قدّم اسمه تعالى ﴿ولله﴾، وأدخل عليه لام الاستحقاق ﴿ولله﴾، أي: له سبحانه وحده.
ثانيًا: أنه ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم (الناس).
ثالثاً: أنه ذكر حرف الاستعلاء (على).
رابعًا: أنه أبدل من هذا العموم أهل الاستطاعة ﴿مَن استطاع﴾.
خامسًا: أنه نكّر السبيل في سياق الشرط، إيذانًا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلاً.
سادسًا: أنه أَتْبَع ذلك بأعظم تهديد بالفكر فقال: ﴿ومَن كفَر﴾.
سابعًا: أنه أكّد الوعيد بإخباره باستغنائه سبحانه عمن فعل ذلك.
ثامنًا: أنه أظهر اسمه سبحانه وكرره في موقع الإضمار، تخويفًا وتعظيمًا، فقال: ﴿فإن الله﴾.
تاسعًا: أنه أكد عظم الاستغناء بكونه عن العالمين عمومًا، ولم يقل: فإن الله غني عنه.
عاشرًا: أنه أكّد هذا التهديد بـ﴿إنّ﴾، فقال: ﴿فإن الله غنيّ عن العالمين﴾.
فيا مؤمن، ماذا تقول بعد ما سمعت كلام ربك، وبعدما تأملت في عجيب نظم آيه إيجاب الحج، أما زلت تفكر في الحج من عدمه؟ إنْ كنت ممن وجب عليه الحج وأخّره، فعليك بالمبادرة، قرِّر قرارَك، واحزم أمرك، واستجب لنداء ربِّك.
اللهم اجعلنا ممن يستجيب لندائك، ووفقنا لطاعة أمرك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فقد أودع الله في كتابه من الآيات الداعية إلى حج بيته ما تتحرك به الهمم، وتتيقظ به النفوس، أما قال سبحانه: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ [الحج: 26]؟ أرأيت إلى هذه الإضافة ما أعجبها؟ إنه سبحانه يقول: ﴿بيتي﴾، فيضيفه إلى ذاته سبحانه، ومَن يزهد بعد هذا في قصد بيت الله، وهذه الإضافة -كما يقول ابن القيّم-: "هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبًّا له، وشوقًا إلى رؤيته".
فهل أنت مِن هؤلاء؟ وتحرّكت نفسك إلى حج بيت الله؟ وكنت مِن وفد الله هذا العام كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحجاج والعمّار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم" [رواه البزار، وحسنه الألباني].
كُنْ -يا عبد الله- ممن يَسْتَنفِع من بركات هذا البيت، قال صلى الله عليه وسلم فيما صححه الألباني: "استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين، ويُرفع في الثالثة".
فيا مؤمن، إنْ كنتَ ممن وجب عليه الحج بشروطه، وسلِمْتَ مِن الموانع؛ فاقض الواجب الذي عليك، وإنْ كنتَ قد أديت ما عليك؛ فأفسح المجال لغيرك؛ لأن عدد الحجاج في تزايد، فالأولى بالمكان مَن يسعى لقضاء حجة الإسلام، ونيتك الطيبة تبلغ بك بإذن الله المنازل العالية، وعليك أنْ تحصّن نفسك، وتأخذ بأسباب السلامة، خصوصًا مع انتشار هذا المرض، فإن كان لديك موانع صحية أو قابلية لهذا المرض، فلا يحسن بك أن تغامر، فالمطلوب هو فعل الأسباب والأخذ بها.
واعلم بعد هذا كله، أنّ الحامي هو الله، وأنّ الحجاج في ضمان الله، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجدٍ مِن مساجد الله، ورجل خرج غازٍ في سبيل الله، ورجل خرج حاجًّا" [صححه الألباني].
نسأل الله أن يحميَنا جميعًا من شر هذا البلاء، وأنْ ييسر الحج للمسلمين هذا العام وكل عام، وأنْ يصرف عن الجميع المرض والعرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله، كما أمركم بذلك الله فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
________________________
* خطبة للدكتور عويض العطوي ألقيت في جامع البازعي بتبوك، في 4/11/1430هـ.
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|