جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 01-05-1433 08:24 PM
الرحمة المحمدية(1)
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإذا كنا قد عشنا الظلم في أوضح صورِه، والقسوة في أظهر أشكالها، في مجازر اليهود في غزة، وإذا كنا قد شهدنا سقوط الشعارات، وشعارات السقوط، فتعالوا اليوم لنعرف الحقيقة من بابها، وندرك المبادئ من مصدرها، ونأخذ القيم من معدنها، تعالوا لنقضي لحظات مع أعظم سيرة، وأنقى سريرة، تعالوا إلى سيرة نبي الرحمة، وهادي الأمة، صلى الله عليه وسلم، لقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم كتاباً حافلاً، وسجلاً مليئاً، بكل فضيلة وعظيمة، وإننا مهما قلنا وبينا، فلن نقرأ من ذلك السجل الحافل إلا عنوانه.
تعالوا اليوم-أيها الكرام – إلى بعض مظاهر العظمة المحمدية، وخاصة في جانب الأخلاق، وسنقف اليوم مع الرحمة المحمدية، الرحمة التي هي من صفات الخالق سبحانه ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7]، ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156] ، وفي الحديث القدسي : ((إن رحمتي تغلب غضبي)) رواه مسلم، فلما أراد الله أن يمن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويستميت في هدايته، أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم, ذلكم الرسول الذي سكب الله في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفعة , وفي يده من السخاء والندى ما جعله أزكى عبادِ الله رحمة، وأوسَعهم عاطفة، وأرحبَهم صدراً، ولذا قال فيه ربه سبحانه : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقال تعالى عنه : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، بل اتسعت رحمته حتى شملت العالمين قال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، ولقد تنوعت مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم حتى طالت أصنافاً من الناس، بل وتعدت ذلك إلى البهائم.
عباد الله، إن الناس الذين يخوضون المعارك، ويسوسون البشر، غالباً ما تقسو قلوبهم وتجف دموعهم، ونادراً ما تجد الموغلَ في ذلك منهم متصفاً بصفة الرحمة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك طرازاً فريداً، فمهما طلبتَ عنده من الشجاعة والقوة، والصبر والمراس وجدت, لكنها صفات لا تطغى على خلق الرحمة أبداً، فكم هي المواقف التي فاض فيها قلبه رحمة، ودمعت فيها عيناه شفقة , ولقد تنوعت مواطن رحمته وشملت أصنافاً من المرحومين سجلتها لنا كتب السيرة، ويمكن جمع تلك فيما يأتي:
أولاً: رحمته صلى الله عليه وسلم بالضعفة والمساكين.
لقد وصفه ربه سبحانه بأنه رؤوف رحيم، لذا كان يحبه كل من رآه، ويتعلق به كل من عاشره، دفعته شمائله العظيمة وصفاته الجليلة لتحسس حاجات المستضعفين، وتفقد أحوال المساكين والمعوزين، لقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بالنساء والأطفال، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه كما جاء في صحيح مسلم: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وجاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي, فأتجوز في صلاتي مما أعلمه من وجد أمه من بكائه"، إنها الشفقة المحمدية، وإنها الرأفة الحقيقية، فحتى العبادة ليست سبيلاً إلى العنت والعناء، بل هي رحمة وهناء.
ومظاهر رحمته بالصبيان كثيرة تجل عن الحصر، فهو يلاعبهم، وعلى ظهره يركبهم، ويقبِّلهم، ويؤانسهم حتى كانوا لا يأنسون إلا به، رأى الأقرع ابن حابس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فعجب من ذلك وقال : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "من لا يرحم لا يرحم" [رواه الشيخان].
إن الرحمة –يا عباد الله- ليست كلاماً يقال, لكنها شعور عميق, يتحول إلى سلوك ملموس.
فيا أيها الآباء، تأسو بالنبي الكريم في رحمته بفلذات الأكباد، أين هذا الخلق من أولئك الآباء الذين لا يعرفون من الأبوة سوى التسلط والبطش، لا يأنسون بأولادهم ولا يأنس أولادهم بهم، لأنهم بالدنيا مشغولون، ومع الأصحاب لاهُون.
يا أيها الآباء، انظروا إلى دموع النبوة وهي تهراق رحمة ورقة في غير موقف، هذا ولده إبراهيم يموت وهو بين يديه فجعلت عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان , فقال عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله! كأنه استغرب بكاءه، قال: " يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" [رواه البخاري]، وأخذ صلى الله عليه و سلم بنتًا له تقضى، فاحتضنها فوضعها بين ثدييه، فماتت وهى بين ثدييه، فصاحت أم أيمن فقيل: أتبكين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: ألست أراك تبكي يا رسول الله؟ قال: لست أبكى، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز و جل" [رواه أحمد في مسنده (1 / 273)، بإسناد حسن].
وجاء في صحيح مسلم أن سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اشْتَكَى شَكْوَى فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ في غَشِيَّةٍ فَقَالَ: «أَقَدْ قَضَى؟». قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا، فَقَالَ: «أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للخدم والضعفاء، مرَّ يوماً على أبي مسعود البدري وهو يضرب غلاماً له بالسوط، فقال : "اعلم أبا مسعود أنَّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقلت: يا رسول الله , هو حر لوجه الله، فقال: "أما لو لم تفعل للفحتك النار" [رواه مسلم].
فماذا يقول أولئك الذين ينتهزون فرصة ضعف الخدم فيوقعون بهم ألوان العذاب والهوان، يؤذونهم, وينهرونهم ويشقون عليهم, ويحتقرونهم, ويضربون ويسلبون حقوقهم، وما هكذا كانت أخلاق النبي العظيم معهم بل كان صلى الله عليه وسلم يأكل مع الخادم، ولا يكلفه ما لا يطيق، ولا يعنف ولا يضرب، ولم يكن صخاباً ولا فحاشاً ولا لعاناً ولا فظًا, يقول أنس: "خدمتُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سنين، فما قَالَ لي قَطُّ: أُفٍّ، وَلاَ قَالَ لِشَيءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَه؟ وَلاَ لشَيءٍ لَمْ أفعله: ألاَ فَعَلْتَ كَذا؟ [متفقٌ عَلَيْهِ], فأين هذا من معاملاتنا اليوم!
فاتقوا الله -عباد الله- فيمن تحت أيديكم من الخدم والعمال، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من الأعمال ما لا يطيقون، وارحموا ضعفهم، وغربتهم عن أهليهم وأوطانهم, واحمدوا الله على العافية وسعة العيش، وأدُّوا إليهم حقوقهم ولا تأخِّروها أو تبخسوها, جاء في صحيح الجامع (238) قوله صلى الله عليه وسلم: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه, وليلبسه من لباسه, ولا يكلفْه ما يغلبه, فإن كلفه ما يغلبه فليُعنْه".
واعلموا -بارك الله فيكم- أن الضَّعَفة من الفقراء المساكين كانوا من المقدَّمين عنده صلى الله عليه وسلم، كان يسأل عنهم، ويحتفي بهم؛ على عكس ما نرى اليوم ممن تنَّكر لهذا الصنف من الناس، جاء في البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً أسود فقيل له: إنه قد مات، كانوا يظنون أنه لن يهتم بأمر هذا الرجل , لأنه من الضعفة الفقراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم معاتباً : "أفلا آذنتموني, أفلا أخبرتموني؟ فقالوا: إنه كذا وكذا من قصته, فحقروا من شأنه، ولم يزده ذلك عند النبي العظيم إلا رفعة، فهو صلى الله عليه وسلم لا يقيس الناس بمناصبهم ولا بأموالهم, كما هو حالنا اليوم, بل بتقواهم، ودينهم، وكان الضعيف أقربَ إليه من القوي، فقال : "دلوني على قبره فأتاه فصلى عليه", ليعلّم الأمة من بعده لحمة التآزر والتكاتف, والرحمة والتآلف.
فيا أصحاب المال, وأصحاب الجاه، كم في البيوت من أسرار، وكم هناك من معوزين، أفتنتظرون أن يطرقوا أبوابكم، إن رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك, بل بادر هو بالسؤال عن المحتاجين والمساكين، فهلا فعلتم ذلك خصوصا في مثل هذا البرد، وما فيه من الحاجة والعوز، فكم في سد حاجة المحتاج من راحة بال، ودفع نقمة، وجلب نعمة.
ثانيا: رحمته صلى الله عليه وسلم مع أعدائه.
عجباً لهذه الرحمة العظيمة التي شملت حتى الأعداء عندما يكونون تحت سيطرته صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، إن المواطن التي تغيب عادة فيها عواطف الرحمة، وتظهر فيها بوادر الانتقام والانتصار, تبقى فيها صفة الرحمة عند النبي الكريم في محلها لا تطغى على غيرها , ولا يطغى غيرها عليها.
إن الرحماء يفقدون هذا الخلق أو يغلبهم عليه غيره في المواقف العصيبة , التي يحصل فيها المرء على القوة والسلطة بعد الاضطهاد والحرمان، إلا أن رسولنا الكريم تشهد سيرته بعكس ذلك، فهاهو ذا , في (أحد) تكسر رباعيته، ويشج وجهه، وتجرح وجنتاه، ويسيل منه الدم وهو يمسحه، ويقول كما في البخاري: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟", وفي هذا الموقف العصيب، يقال له: ادع على المشركين فيغلبه رفقه، وتظهر رحمته، فيقول بدلاً من ذلك: "إن الله تعالى لم يبعثني طعَّانًا ولا لعانًا ، ولكن بعثني داعية ورحمة ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» [رواه البيهقي في الشعب]
إن القلوب الكبيرة قلَّمَا تستجيشها دوافع القسوة، فهي أبداً إلى الصفح والعفو أقرب منها إلى العدوان والانتقام.
إنَّ التاريخ ليسجل لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مواقفَ مشرقة, في العفو والصفح, والرحمة والشفقة لمن آذوا وحاربوه, ففي يوم بدر كان موقفه مع الأسارى مثلاً رائعاً للرحمة، حين وقعوا تحت سيطرة المسلمين، ولم يبق لهم من الحول والقوة شيء، وإذا بالرسول العظيم يقول لأصحابه : "استوصوا بالأسارى خيراً" [رواه الطبراني بإسنادٍ حسن]، ولا عجب أن يكون صلى الله عليه وسلم بهذه الشفقة الكبيرة فإن ربه وصفه بقوله : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجهد نفسه في سبيل هداية الناس, حتى كاد يَهلك أسى لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار, حتى قال له ربه : ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].
ثالثًا: رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان.
ونماذج ذلك كثيرة متنوعة منها ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد, من أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً , فجاءت حمّرة (طائر مثل العصفور) ترفرف على رأسه الشريف، وكأنها تلوذ به، شاكيةً ظلمَ رجلٍ أخذ بيضتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيكم فجع هذه ببيضتها؟" فقال رجل: أنا يا رسول الله، فقال: "ارددها رحمة لها".
وهكذا كان يغرس صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه رحمة هذه البهائم، ويحذر من إيذائها , فقد نهى أن تتخذ الحيوانات هدفاً يرمى بالنبال ليتعلم فيه الرمي، ولعن من فعل ذلك، وأمر أن يحد الإنسان شفرته عند الذبح، ولا يكون بمرأى من حيوان آخر، ونهى عن إجاعة الحيوان وتعذيبه, حتى الموت، وما قصة الهرة التي دخلت المرأة النار بسببها عنا ببعيد، ونهى عن التحريش بين البهائم,وعن الوسم في الوجه, وقال : "لعن الله الذي وسمه" [رواه مسلم]، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا" [رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح]، وجاء في صحيح الجامع: "مَن رحم ولو ذبيحة عصفور؛ رحمه الله يوم القيامة".
عباد الله، تلكم بعض مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم وغيرها كثير, لكنها معالم نقدمها لمن أراد السير على هذا الهدي العظيم , نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
عباد الله أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله، لا شك أنّ أصناف البشر الذين هم بحاجة منا للعطف كثيرة، ذكرنا منهم الأولاد والضعفة والمساكين والخدم والنساء ومن أجدر الناس بجميل البر وعظيم المودة والرحمة الأبوان كما قال سبحانه:﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]، وممن تصرف لهم الرحمة رحم الإنسان، وقد قال فيها صلى الله عليه وسلم: " الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ " [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
فلا يصح للمسلم أن يوصد مكتبه وبيته دون أقاربه، فلا يواسيهم في ألم ولا يسعى لهم في عون، ولا يعينهم في ضائقة.
وممن تجب لهم الرحمة اليتامى فإن الإحسان اليهم وكفالتهم من أزكى القربات، بل إن مشاركتهم آلامهم سبيل لزوال قسوة القلب، ففي صحيح الجامع (80): "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه: فقال له: "أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلين قلبك وتدرك حاجتك".
عباد الله، إن الناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة , والمشاعر المرهفة , عندما يتقلبون في الأحوال المختلفة ويبتلون بالسراء والضراء، عندئذ يحسون بمرارة الحرمان مع اليتيم،والفقدان مع الثكلى، والتعب والضنك مع البائس الفقير.
يا أتباع محمد تجولنا اليوم معكم في بعض مواقف الرحمة النبوية، ورأينا فيها شدة شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وعظم صبره عليهم، وكبير خوفه عليهم من العذاب، ففي حديث الكسوف وأصله في البخاري "أنه صلى الله عليه وسلم لما سجد أطال فلم يكد يرفع رأسه, فجعل ينفخ ويبكي, ويقول : "رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم، رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون، ونحن نستغفرك , فلما صلى ركعتين انجلت الشمس".
تأمل -يا مؤمن- بعضنا قد لا يخاف على نفسه من النار، ورسول الله يبكي خوفاً على أمته، رسول الله يدعو ربه السلامة خوفاً على أمته، رسول الله يتضرع إلى خالقه خوفاً على أمته، وفي أمته من يدير لسنته ظهره، وفي أمته اليوم من لا يقبل هديه صلى الله عليه وسلم.
تلكم -عباد الله- هي دموع النبوة تهراق رحمة ورقة, خوفاً على الأمة ورأفة بالضعفاء والمساكين، ولكم نحن محتاجون اليوم أيها الفضلاء إلى القلب الرحيم، والعين الدامعة, في وقت جمدت فيه العيون، وتحجرت فيه القلوب، وقسوة القلوب عقوبة يعاقب بها العباد، يقول مالك بن دينار: "ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم"، كم نسمع من الحوادث والقصص فلا يتحرك فينا إحساس، وكم نعلم من أحوال المحتاجين فلا ينبض لنا قلب، انظروا -يا أتباع محمد- إلى هذه الحادثة التي تروى لأحد الصحابة, وكيف تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كيف تفاعل معها النبي الرحيم، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لما رآه مهموماً: مالك؟ قال يا رسول الله إني أذنبت ذنباً في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت, فقال: "وما هو؟" قال: إني كنت من الذين يئدون بناتهم, فولد لي بنت, فتشفعت إلى امرأتي أن أتركها, فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها, فدخلتني الحمية، فقلت لامرأتي إني أريد أن أزور بعض أقربائي فابعثيها معي, فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق ألا أخونها, فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر، فظنت البنت أني أريد أن القيها في البئر فالتزمتني وجعلت تبكي، وتقول: يا أبت، ماذا تريد أن تفعل بي, فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية فالتزمتني , وأمسكت بثيابي وجعلت تبكي وتقول: يا أبت، لا تضع أمانة أمي، فجعلت أنظر إليها مرة فأرحمها ومرة إلى البئر فتأخذني الحمية حتى غلبني الشيطان فأخذتها وهي تصيح وتمسك بثيابي, وتستغيث, فألقيتها في البئر منكوسة, فجعلت تنادي بصوت مفجوع من أسفل البئر يا أبت قتلتني, يا أبت قتلتني, فمكثت حتى انقطع صوتها, فرجعت وتركتها، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى أصحابه, وقال : لو أمرت أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك)) ذكره الدارمي بلفظ آخر: قال عنه حسين سليم أسد: رجاله ثقات غير أنه مرسل وقد تفرد بروايته الدارمي (2).
إنها دموع النبي تهراق رحمة ورقة لما سمع هذه الحادثة المؤلمة، وللأسف أنه قد يوجد بيننا اليوم من هو أغلظ قلباً من ذلك الرجل، خاصة مع الخدم والعمال والمستضعفين والنساء والأطفال، نحن نسمع اليوم العنف الأسري ما يتبعه من ممارسات يعجب المؤمن من حصولها من إنسان يؤمن بالله، نسمع من يحرق أطفاله بالنار، أو يجلدهم بالسياط، أو يعلقهم من أيديهم وأرجلهم، فيا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, نبيكم نبي الرحمة فسيروا على سنته , فهو القائل عن نفسه كما في المسند وصحيح ابن حبان وحسنه الألباني: "أنا محمد وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، أنا المقفي، وأنا الحاشر، ونبي الملاحم".
عباد الله، صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب : 56].
_______________________________________
(1) ألقيت لأول مرة بجامع الأمير فهد، بتبوك- حي الورود، 24/1/1418هـ، وأعيدت بجامع البازعي بتبوك – حي المروج، في 4/2/1430هـ.
(2) هذه القصة أوردها الشيخ محمد الحامد في كتابه ( رسائل الحامد ) ص 8 مكتبة المنار الزرقاء، وذكره الدارمي بلفظ آخر: قال حسين سليم أسد : إسناده رجاله ثقات غير أنه مرسل وقد تفرد بروايته الدارمي .
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|