الأمن الأسري
(عام 1419هـ)
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن الإسلام شرع لكيان الأسرة ما يحفظه ويحرسه ، ويشيده ويبنيه ، هذا الكيان المبني من أول يوم على المحبة والرحمة، والمودة والألفة، قال جل شأنه: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الروم: 21 ]
عباد الله ، إن قيام الأسرة ضرورة ملحة لإقامة مجتمع متماسك، لأن الرجلَ بحاجة إلى المرأة، والمرأة بحاجة إلى الرجل ، لشيء آخر غير ضرورة الجسد ودافع الغريزة، إن كلاً منهما ليجد عند الآخر مشاعرَ نفسية ، وحاجات ضرورية ، يجد عنده الألفة والحنان، والطمأنينة والأمان ، والمودة والوئام ، وهذه المشاعر كلها لا تستقيم مع الطفرات الهائجة ، والتيارات المتحولة ، والنـزوات الطائشة ، إن الاستقرار العاطفي ، والتآلف النفسي ، لن يكون في أي مناخ ، ولا في أي مكان إلا في أسرة وبيت .
هذه الأسرة وهذا الكيان المبارك أولاه الإسلام عناية فائقة ليستقيم بناؤه، ويستمر هناؤه ، فإلى الزوج الذي يتطلع إلى حياة هادئة ، وعيشة هانئة ، في ظل تعاليم الإسلام نسوق هذه المحاذير التي هي من أهم أسباب تقويض بناء الأسرة ، وتحطيم علاقاتها الشرعية .
معاشر الفضلاء، إنه ما من عاقل إلا ويبحث جاهداً عن الاستقرار والسكينة والطمأنينة في بيته وأسرته ، لكن ببعض أفعالنا ، وقلة فقه بعضنا ، قد نشارك في تقويض البناء ، وإذهاب الهناء ، وزرع الشقاء.
فإن كنت من راغبي العيشة الراضية ، والحياة الهانئة ، إن كنت من مبغضي التشتت والفراق ، وشانئي التعنت والشقاق ، فانتبه من عَشَرة محاذير، أسردها على سمعك مقرونة بأدلتها الواضحة، وأحداثها الناصعة .
أولاً : احذر التفريط في الرعاية الدينية وحسن التوجيه:
فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في السلسلة الصحيحة ( 1636) : (( إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) . وإن من الرعاية لأهل بيتك أن تعلمهم أحكام الدين وتعاليمه الشرعية ؛ لأن هناك من النساء من لا تعرف كيف تصلي صلاة صحيحة ، ومنهنّ من لا تعرف أحكام الحيض والنفاس ، ومنهن من لا تعرف كيف تعامل زوجها معاملة شرعية ، بل ربما وقع بعضهنّ في الشرك عياذاً بالله ، كالنذر لغير الله والسحر والكهانة ، ولا تعجب أيها الفاضل من هذا الكلام ولا تظن أن فيه مبالغة فإن الواقع يشهد به، هل يخطر ببالك أن تبقى امرأة مع زوجها عشرات السنين وهي لا تعرف الغسل من الجنابة، أم هل تتخيل أن المتعلمات في الثانويات والكليات يجهلن أحياناً أسهل قواعد أحكام المرأة ، إن المرأة محتاجة جداً إلى التعليم الديني حاجتها إلى الطعام والشراب ، ولنا في اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر مثلاً نسير عليه، حيث زوج امرأة لرجل وجعل صداقها تعليمها شيئاً من كتاب الله . [ صحيح البخاري ]، كما أنه خصص يوماً للنساء يعظهنّ ويعلمهنّ فيه .
فيا أيها الزوج المبارك ماذا عليك لو اتبعت الخطوات الآتية لتعليم زوجتك :
1- تهديها كتيباً عن أحكام دينها ثم تناقشها فيه .
2-تهديها شريطاً عن أحكام دينها ثم تناقشها فيه .
3- تصطحبها معك للمحاضرات والدروس التي تخصها .
4- تتدارس معها ومع أولادك كتاباً مثل رياض الصالحين .
5- تربطها بصحبة صالحة من جاراتها يتعاونّ على الخير والفلاح .
6- تكوّن في بيتك مكتبة صغيرة للكتب والأشرطة التي تخص الأسرة .
7- تخصص لها هدية شهرية، كلما حفظت أو أتقنت شيئاً من أمور دينها .
8- تجلب لها المجلات الإسلامية التي تناقش قضاياها .
ثانياً : احذر تلمس الزلات وتتبع العثرات :
من الأزواج من لا يرى عيباً إلا يفشيه ، ولا تقع عينه على نقيصة من زوجته إلا ويقيم الدنيا ولا يقعدها ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري (( أن يطرق الرجل أهله ليلاً )) ، أي إذا سافر عنهم، مخافة أن يتخونهم أو يتلمس عثراتهم ، بل عليه أن يتجاوز عن بعض الهفوات ، ويسامح في بعض الزلات حتى تسير السفينة ويسلم البناء ، قال عليه الصلاة والسلام: ((استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإذا ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) (متفق عليه).
وجاء في الصحيح " لا يفركنّ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر"، وفي الصحيحين " أن امرأة عمر راجعته فقال أتراجعيني بالكفاء؟ ، فقالت إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك ، فقال : خابت حفصة وخسرت إن راجعته ، لا تغتري بابنة أبي قحافة ، فإنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فانظر يا عبد الله إلى تحمله عليه السلام لما يصدر من زوجاته ، وانظر إلى تعقله وهو صاحب المكانة والشرف، إنه صلى الله عليه وسلم مثال عملي لتوجيهات القرآن قال سبحانه : ﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ﴾ [ النساء: 19 ]
وهذا عمر الفاروق يلين بعدما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فيأتيه رجل يشكو خلق زوجته ، فيقف على بابه ويسمع امرأة عمر تستطيل عليه وتخاصمه ، وعمر ساكت لا يرد، فانصرف الرجل وقال في نفسه إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف بحالي ، فخرج عمر فرآه وناداه وأخبره بحاجته وبما سمع من زوجة عمر، فقال عمر ، يا أخي أحتملها لحقوق لها علي ، إنها طابخة لطعامي ، خبازة لخبزي ، غسالة لثيابي ، مرضعة لولدي، وليس ذلك كله بواجب عليها ، ويسكن قلبي بها عن الحرام ، فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة .
فأين هذا من أولئك الأزواج الذين لا يسامحون في هفوة ، ولا يتجاوزون زلة ، لا يرعون في أزواجهم إلاً ولا ذمة ، بهذا الخلق والصبر والتحمل مع القوامة تسير الحياة الزوجية ، وتتلاشى المشكلات الأسرية .
ثالثاً : احذر الظلم والتعدي في العقوبة والتأديب :
أخي الفاضل، العقاب له ضوابطه في دين الله، وله أسبابه التي تقتضيه، وأحواله التي تستدعيه، فلا يحق للزوج استغلال سلطته للتعدي والظلم، ومن مظاهر ذلك استخدام الضرب كأول خطوة في العلاج والله عز وجل يقول ﴿ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا﴾ [النساء: 34].
ويقول صلى الله عليه وسلم : (( استوصوا بالنساء خيرا فإنما هنّ عوان عندكم ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ ضرباً غير مبرح)) [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
ومن الظلم إخراج الزوجة من بيتها بدون مسوغ شرعي قال تعالى : ﴿وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ [ الطلاق :1 ].
ومن الظلم أيضاً : الضرب على الوجه والسب والتقبيح ، فقد روى أبو داود بإسناد حسن أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله ما حق المرأة على زوجها ؟ فقال: (( أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر إلا في البيت)) .
عباد الله، هناك صنف من الرجال لا يرى قوته إلا على زوجته أم عياله ، فيعاملها معاملة الأسير عند سجان ظالم ، نعجب اليوم من أناس لا ينقصهم التعليم ، ولا تعوزهم المعرفة مازالوا ينظرون إلى المرأة نظرة دونية ، فتجدهم يكرمون المجلس عن ذكرها فيقول بعضهم : زوجتي أكرمك الله ، أو فلانة أكرم الله مجلسكم ، يا هذا أهي نجس حتى تقول عنها هذا، إن ذلك منطق أصحاب الديانات المحرفة ، إنه لا فرق في ديننا العظيم بين ذكر وأنثى إلا بالتقوى (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ))، كم من زوجة هي أعظم قدراً عند الله من زوجها ، فإياك والاحتقار فإنه مزلة عظيمة ، وظلم كبير،لا يبقى معه بناء الأسرة طويلا ، ومن أظهر نتائجه التعدي الجسدي على بعض النساء بالضرب والشتم والتقبيح ، يظن بعض الرجال أنه بهذا يثبت رجولته، يا هذا ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها (( ما ضرب رسول الله قط بيده لا غلاماً ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله)) ، لو كان خيراً لسُبقنا إليه ، الرجولة والفحولة في القوامة والعدل والرحمة ، لا في الجفاء والغلظة والظلم ، ولا يظن ظان أنه غير مسؤول عن ذلك ، بل هو موقوف بين يدي ربه ومحاسب على ظلمه وجوره ، فانتبه وتذكر قدرة الله وضعفك ، وتذكر عدل الله وظلمك، قال صلى الله عليه وسلم (( لا تضربوا إماء الله ، قال عمر يا رسول الله إن النساء زأرن (أي تجرأن) على أزواجهم ، فأذن لهم، فطاف أزواج ببيت النبي صلى الله عليه وسلم يشكون أزواجهن فقال صلى الله عليه وسلم : أولئك ليسوا بخياركم)) رواه أبو داود صححه الألباني .
رابعاً : احذر التقتير في النفقة .
قال تعالى موجباً النفقة: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها﴾ [ البقرة : 233 ]
إن بعض الأزواج شحيح بخيل يقتر على أهله، ويضيق على أسرته، فيعيشون معه عيشة نكدة، والمال جارٍ بين يديه، حتى يلجئهم إلى السؤال والمذلة، هل تتخيل أخي الكريم رجلاً يملك مئات الألوف، وعنده عدد من العمارات يبحث أولاده عما يلبسون أو حتى ما يأكلون في المزابل والقاذورات، إن هذا واقع رأيناه وعرفناه، إن هذا الصنف من الأزواج لم يرع الحقوق الواجبة عليه ، وبهذا يعرض بناء الأسرة للزوال ، لأن المرأة لن ترضى بهذه العيشة المهينة، إن الإنفاق المعتدل على الأسرة فوق كونه واجباً، هو نوع من الصدقة يثاب عليها الإنسان، جاء في الصحيحين " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة " ، وجاء في صحيح مسلم " أفضل دينار ينفقه الرجل على عياله " .
عباد الله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنَه هو الغفور الرحيم .
____________________________________
الخطبة الثانية
أما بعد ،
فقد ذكرنا بعضاً من أسباب هدم الأسرة ، وإليك أيها الفاضل ما يكملها :
خامساً : احذر سوء المعاشرة وشائن المعاملة .
جاء في السلسلة الصحيحة (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي ، فيجب على الزوج أن يكون بشوشاً مع أهله يدخل عليهم السرور بكلامه وفعاله، جاء في السلسلة الصحيحة (( كل شئ ليس من ذكر الله لهو أو سهو إلا أن يكون في أربع خصال ، ومنها ملاعبة الرجل أهله )) ، ومع هذا يظن كثير من الأزواج أن ملاطفة أهله واللهو معهم على غير محرم أنه من ضوارم المروءة ، ونقائص الرجولة، ونقول لهؤلاء أين أنتم من سيرة المصطفى ، النبي المجتبى صلى الله عليه وسلم الذي كان يلاطف أهله ويحث على ذلك، ومن الملاطفة إطعام الزوجة بيدك قال صلى الله عليه وسلم : (( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك )) متفق عليه .
ومن التلطف نداء الزوجة بأسماء التدليل والترخيم لزيادة المودة والمحبة، فقد كان صلى الله عليه وسلم : (( ينادي عائشة أحياناً فيقول يا حميراء )) كما عند النسائي والحميراء تصغير (حمراء) وصف لون البشرة . وكان يناديها أحياناً " يا عائشُ )). وكان يمازحها ويلاطفها ويقول لها: (( يا عائشة إني لأعرف غضبك علي ورضاك عني، قالت وكيف تعرفه ، قال إذا رضيت عني قلت لا وإله محمد، وإذا غضبتِ عليّ قلت : لا وإله إبراهيم ، قالت صدقت ، إنما أهجر اسمك " ، وكان يقول لها صلى الله عليه وسلم : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع غير أني لا أطلقك )) رواه البخاري ومسلم ، وبلغ من إيناسه صلى الله عليه وسلم لأهل بيته أنه إذا خلا بإحداهن يسابقها، هذه عائشة رضي الله عنها يقول لها: (( تعالي حتى أسابقك ، قالت فسابقني فسبقته ، ثم مضت الأيام فامتلأت من اللحم فسابقني، فسبقني وقال هذه بتلك يا عائشة )) صححه الألباني في الإرواء (1502) .
معاشر الأزواج إن المعاملة الطيبة ، والخلق الحسن يدخل من الأنس والبهجة مالا تستطيعه مغريات الدنيا كلها ، وإن الشيطان حريص على هدم هذا الكيان المبارك، كيان الأسرة بالتفرقة والتشتيت والنشوز والطلاق ، وإنه ينفخ في الكلمة تصدر من الزوج أو الزوجة حتى يجعلها مشكلة كبرى تستعصي على الحل، ولكن الكلمة الطيبة والاحتمال والصبر يذهب كل هذا ، ومما يجب فهمه أن مؤانسة الأهل والتلطف معهم لا تعني ترك الحبل على الغارب لهم ، بل المقصود المؤانسة في حدود ما أحله الشرع أما التبسط الزائد ، واللين المذموم الذي يفسد معه خلق المرأة ، وتسقط به هيبة الرجل فهذا مذموم ، فلا بد من التوسط ، فلا ظلم ولا قسوة ولا عبوس ولا شدة، وكذلك لا يجوز أن ينقاد لهنّ انقياداً كاملاً يمسكن معه بزمام الأمور، وقد جاء في صحيح مسلم(( ألا هلكت الرجال حين أطاعوا النساء )) وقال الحسن البصري : ((والله ما أصبح رجل يتبع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار " ، وعند الرجل العاقل لا مصادمة بين التلطف وحسن المعاشرة ، وبين القوامة والحزم والقوة ، فلكل منها موطنه ، وسيرة النبي ( شاهد عملي لكل هذا ، فرغم الأعباء التي كان يتحملها وينوء بها إلا أنه لم يهمل أهله من جميل الكلام وحسن الفعال .
فبالخلق اللطيف وحسن المعاشرة يؤدي الزوج لزوجته حقوقها ، وبخلق الحزم والعدل تتحقق القوامة ويبقى كيان الأسرة متماسكاً .
عباد الله ، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً﴾ [ الأحزاب:56] .