لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة=فقد قيل فما نالني من مقـالها
فقل للتي كانت ترى فيّ قدوةً=هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
وكل مناها بعض طفل تضمه=فهل ممكن أن تشتريه بمــالها
وما زالت هذه المشكلة في تنامٍ مستمر ، حتى أعلنت إحدى الجرائد أن عدد المعلمات اللاتي ينتظرن قطار الزواج في بلادنا يزدن على عشرين ألف معلمة ، عدد كبير وقد يكون المستور أعظم وأكثر، فلم نجعل التعليم عائقاً عن الزواج والارتباط العفيف ؟.
يا أيها الأباء، إن المغريات كثيرة للشباب والشابات ، وليس يعقل أن نغفل عنهم ، ونتذرع بالدراسة والتعليم ، وكثرة التكاليف ، وأن الزواج قد يؤخر عن الدراسة ، انظروا في أحوال الشباب والشابات ، تأملوا في أوضاعهم ، إنهم يشتكون ويصرخون .
يقول أحد الشباب : أنتم لا تعلمون عنّا شيئاً ، والكل يقف ضدنا ، فالطالب لا يصلح أن يتزوج لأنه ليس لديه دخل ، إننا في وسط هذه الفتن والمغريات لا نرى بين سطور الكتب إلا صور الفتيات، وإغراء الشيطان ، عقولنا مشغولة وغرائزنا ملتهبة ، وأوضاعنا تنذر بخطر .
يا أيها الأب زوّج ابنتك إذا تقدم لها كفء ودعها تكمل دراستها وهي في حراسة الفضيلة ، وكذلك ابنك إن كنت مستطيعاً فلا تتردد حتى تحصنه بإذن الله من زلة قد تودي بشرفه وعفته ، وسمعته ومكانته ، أما تكاليف الزواج فهي عقبة كؤود صنعتها أعراف وآراء ، لا يهمها إلا المظهر والمنظر ، والشباب عندما ينظرون في حجم تلك التكاليف تتلاشى من خيالهم صورة الزواج الجميلة ، وتتقرر عندهم قناعة أنه أصبح من الأمور الصعبة ، وربما المستحيلة ، مسكن مريح ومهر ، وحفل زفاف وقصر، وأحوال قبل الزواج وبعده جعلت الزواج جحيماً لا يطاق ، ومطلباً عسيراً لا ينال .
معاشر الأولياء ، لم المغالاة في المهور؟ ، إنه ليس كرامةً ولا فضلاً وإلا سُبقنا إليه ، بل إن أهل المروءات وأصحاب الفضائل والمكانة ، لا نجد عندهم شيئاً من ذلك ، هذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول مرشداً أمته ((أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا)) رواه الإمام أحمد والبيهقي.
معاشر الآباء ، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم لا تجعلوا الفتيات سلعاً تعرض ، ثم تعطى للأعلى دفعاً ، إنه ظلم كبير أن تحرم الفتاة من حقها في إحصان فرجها ، وبناء مستقبلها وأسرتها ، وكم عانت فتاة من جور الولي في عضلها عن النكاح حتى خسرت، أو انحرفت ، أو انتحرت ، فتاة وقف أبوها لها بالمرصاد يرد الخاطب تلو الخاطب ، بحجج وأعذار ضعيفة ، حتى مضت السنوات ، وكبرت البنت ، وتعداها القطار ، وحضرت الوفاة والدها ، وعلم خطأه وطلب منها المسامحة ، فقالت له والله لا أحللك ولا أسامحك ، كم سببت لي من حسرة وندامة ، لقد حرمتني من حقي في الحياة ، ماذا أعمل بشهادات أعلقها على جدران منزل لا يجري بين حوائطه طفل ، إني يا أبتِ لم أرضع طفلاً ، ولم أضمه إلى صدري ، لم أشكُ همي إلى رجلٍ أشاركه الحياة ، اذهب عني واللقاء يوم القيامة بين يدي عدل لا يظلم ، لن أترحم عليك ولن أرضى عنك حتى موعد اللقاء ، يوم الفصل عند العليم الخبير .
إنها مآسٍ وصور ، وأحداث وعبر ، تهز المشاعر وتوقظ الوجدان ، وهي من واقع الحال ، وليست من نسج الخيال .
يا أيها الأولياء ، الزواج ليس صفقة تجارية ، وليس هو مزاداً علنيا ، بل الزواج إهداء نفس لنفس لا متاع لشاريه ، الزواج حراسة للفضيلة ، وإحصان للفروج ، وسبيل من سبل الأمن و الاطمئنان ، هكذا يفهمه العقلاء ، وهكذا ينظر إليه النبلاء ، لا تعيقهم في ذلك أعراف قبلية ، ولا مظاهر خادعة ، هذه فاطمة بنت قيس القرشية كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم لها كما في صحيح مسلم : (( انكحي أسامة بن زيد ، فكرهته لأنه مولى وهي الحسيبة النسيبة ، ولكن هذا ليس هو الميزان ثم عاد صلى الله عليه وسلم وقال : انكحي أسامة فنكحته ، فجعل الله فيها خيراً كثيراً، وكان زواجاً مباركاً ، وهذه فاطمة بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحبة الشرف في الدنيا والآخرة ، إحدى سيدات نساء العالمين ، كان جهازها : مخدة ورحى وقطيفة وقربة ، وهذا سعيد بن المسيب يبحث عن صاحب الدين لابنته على بضعة دراهم ، ويرد الأمراء والأموال والمراكز ، هذه نماذج رائعة يجب أن تُحتذى ، وصور مشرقة لابد أن يقتدى بها ، وأما الإصرار على رد الأزواج ، فهو فتح لباب فتنة كبيرة، قال عنها صلى الله عليه وسلم : (( إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) رواه الترمذي .
فكيف بعد هذا يطلب الأولياء الثمانين والتسعين ألفاً ، إن المهور التي تزيد على الثلاثين في زماننا هذا ، مع الدخل المحدود أصبحت باهظة ، قد يعجز عنها الشباب ، لم لا يزوج الأب ابنته بمبلغ معقول ، ويعين على جهازها ، ويحفظ لها عفتها ، رجل عاقل حدثني بأنه يجهز شقة صغيرة أعدها لابنته ، حتى يعينها على زواج يسترها ويسعدها .
عباد الله ، ألا يمكن أن يتم زواج دون هذه التكاليف الباهظة، وهذه البهارج الخادعة ، وليمة متواضعة يدعى إليها الأقربون ، تكون في البيت أو مكان عام ، ويعلن النكاح ويتم كل شيء ، ويبارك الله فيه ، إن هناك من لم تتجاوز تكاليف زواجه الثلاثين ألفاً من ضمنها المهر والصداق ، أهذا خير أم من يخرج من الزواج بديون تقض مضجعه، وهموم تؤرقه ؟ أي سعادة جلبها له ذلك الزواج، وأي سكن وجده في زواج أزعجته فيه طلبات أصحاب الحقوق، وقهره فيه الرجال ؟.
عباد الله ، لنكن على مستوى المسؤولية ، ولنتعقل في تصرفاتنا، وما جعل الله القوامة للرجال إلا لما فيهم من التعقل والاتزان، فليقم كلٌ منا بواجبه .
ومن أسباب العزوف عن الزواج الخوف من المسؤولية ، فبعض الشباب يرى أن الزواج يكبله ويحد من حريته ، والفتن من حوله تحيط به ، والمغريات تدعوه ، فلا بد للشباب من تجاوز هذه الأفكار المستوردة ، والقرارات الخاطئة ، إن مسؤولية الزواج خير بلا شك من الضياع والشرود ، والانحراف والشذوذ ، فليس من العقل أن يفر الشاب من تكاليف الزواج ، ومسؤولياته إلى الضياع والانحراف .
والمستجير بعمر عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار
معاشر الآباء والأولياء ، لابد من النظر إلى مشكلة العنوسة في النساء، وتأخر الزواج في الشباب ، على أنها مشكلة لها مضاعفاتها الخطيرة ونتائجها المدمرة ، فالفتاة التي فاتها قطار الزواج تصاب غالباً بعقد نفسية ، تكره معها المجتمع وتحقد عليه ، وربما تؤذي نفسها أو الآخرين .
وفي غير حادثة حاولت بعض الفتيات الانتحار ، تخلصاً من الهموم والأحزان ، وغالباً ما يصيبها الوهن ويلحقها السقم من كثرة التفكير ، وتأكلها الهموم ، وتتسارع إليها الأمراض حتى تسكن جسدها ، ثم تأخذ زهرتها في الذبول ، حتى تأتي ساعة الفراق، فتاة هذا حالها نقلت إلى المستشفى ما بها علة إلا الحرمان والهم والغم ، وزادت عللها حتى شارفت على النهاية ، فأتاها والدها الذي حرمها من الزواج حتى بلغت الأربعين ، أتاها ليطمئن عليها ويسأل عن حالها، فلما أحسّت بدنو الأجل جمعت قواها وقررت أن تواجه أباها في اللحظة الأخيرة، وأن تستجمع كل ما في قلبها من آهات وهموم ، فتقول يا أبتِ اقترب مني فاقترب ، قالت : اقترب فاقترب، قالت: قل: آمين ، قال: آمين ، قالت: قل: آمين ، قال: آمين ، قالت: قل: آمين ، قال: آمين ، قالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني الزواج ثم ماتت. نهايات محزنة ، وقصص مؤسفة، لكنها حقائق ووقائع.
عباد الله ، ليس المرض هو كل آثار العنوسة وترك الزواج ، بل هناك الإقبال البغيض على الفن الهابط ، ومحاولة التنفيس بالحرام ، والتسلية بما يخدش الحياء ، ويزيد البلاء ، فالشباب والشابات أمام شاشات الدش ، أو صفحات الأنترنت في صور فاضحة ، وكلمات خادشة ، إثارة للغرائز ، وبعث لكوامن الشهوة ،حتى تستعر، فتتحول إلى عزيمة ، ثم إلى فعل وفاحشة ، فيظهر المجون والسقوط والاعتداء والاغتصاب ، والعادة السرية واللواط ، وسفور النساء والسحاق ، وكم من فتاة أقرّت بالانحراف عن طريق العفة لمَّا سُدَّتْ أمامها أبواب الزواج .
عباد الله ، إن هذا الفن الهابط الذي يعرض على مسامع الشابات والشباب وأبصارهم ، ليلاً ونهاراً لهو من أعظم الفتن ، ولهو من أعظم الأسباب لولوج الفاحشة ، والوقوع في الخطيئة ، في المجتمعات الغربية التي لا حشمة فيها ، تذكر الإحصاءات أنه يحصل كل ثلاث ثوانٍ جريمة أخلاقية ، عصمنا الله وإياكم من الزلل وحمى بلادنا من هذا البلاء .
عباد الله، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
___________________________________________
الخطبة الثانية
أما بعد :
فإن ما نراه هذه الأيام من كثرة الزواجات لهو أمرٌ يسر النفس ويفرح الخاطر ، لكن هذا لا ينفي كثرة القابعات في البيوت ، أسيرات الدراسة وغلاء المهور ، والعادات الوافدة .
معاشر الآباء ، إننا بخطوات يسيرة نكون فيها على قدر كبير من الواقعية والتعقل ، نصل إلى حلول كثيرة لهذه المشكلة ، فما المانع من تسهيل أمر الزواج وتقليل المهور ، وديننا يحثنا وعقولنا ترشدنا إلى كل هذا ، لِمَ لا نبدأ بتطبيق الزواج المختصر؟ ، الذي يكون في البيت، فلا تكاليف ولا قصر ، لننحي نظر الناس جانباً ، ولنفعل ما هو حق وصحيح ، رضي الناس أم غضبوا ، أهناك ما يمنع أن يعرض الرجل ابنته على من يراه كفئاً لها ، بطريقة تحفظ لها كرامتها ، إن هذا فعل النبلاء وطريقة العقلاء ، شعيب عليه السلام يقول لموسى -عَلَيْهِ السَّلاَم- : (( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ))، وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ثم يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بارت سوقها كما يقول الناس ، ولا زهد فيها الخُطاب ، بل تزوجها أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم .
ولابد من تربية البنات تربية صحيحة تقوم على غرس الانصياع لحكم الله وتقديمه، لا على الاعتراض عليه والتسخط منه، فالتعدد مثلاً أمر مشروع، لكنه اليوم بسبب التربية الإعلامية، والتعبئة الكلامية أمر محرم محذور، يوازي في نظرهم كبائر الذنوب، وأحد أسباب انهيار الأسرة، من الذي أوجد هذه المفاهيم وغرسها في عقول الشباب والشابات، إلا القنوات ، والمجلات ، والصاحبات ، والأبوان يباركان ذلك أحياناً، كم من فتاة عندما علمت خطأها وزيف ما يقولون وينقلون ندمت ، وقالت بكل قناعة : إنني أرضى ولو بربع رجل .
يا أيها الأباء ، اغرسوا في بناتكم حب الدين والانصياع لحكمه ، حببوا إليهن الذرية والحياة الزوجية ، حتى تحرص الفتاة على بنائها من أول يوم ، عودوهن على ممارسة أعمال البيت حتى يكنّ زوجات صالحات ناجحات ، أما أن تبقى بناتنا عارضات أزياء في البيوت والشوارع ، لا هَمَّ لهن إلا الغواية والإغراء ، واللبس والزينة ، فهذا لا يرضاه عاقل ، ولو بحثنا في البيوت لوجدنا أن أكثرها لا يوجد فيها برنامج توجيهي يفيد الشباب والشابات، وهذا خلل وقصور في التربية والمسؤولية.
يا أيها الأب ، إن كلماتك الطيبة وتوجيهاتك الحسنة ، لها أثرها في نفس ابنتك فقرر مع زوجتك أن تصرف اهتمامك إلى تحصين ابنتك بغرس القيم الفاضلة ، والاهتمام بالأمور العالية ، اربطها بالله وبكتابه ، حببها في سيرة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم والصالحات ، ابذل لها مالاً أو هبةً كلما قرأت في السيرة العطرة ، والآداب والفضائل ، وسترى شيئاً غير الذي تعهده من مثلها ، وإليك هذا النموذج الفذ الذي تربى على الإسلام ، وعرف هدفه في الحياة ، إنها الرميصاء بنت ملحان ، أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت برسول الله وشهدت بالحق ، وعارضها زوجها مالك ، لكنها صبرت وكانت تلقن ولدها أنس شهادة التوحيد ، فيقول لها زوجها مالك: لا تفسديه فتقول: إني لا أفسده ، ثم قُتل زوجها مالك ، فبقيت تربي رضيعها ثم أخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءها طلحة وكان كافراً ودفع لها مهراً عالياً فردت عليه : (( لا ينبغي أن أتزوج مشركاً ، أما تعلم يا طلحة أن آلهتكم ينحتها فلان ، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت )).
إنها والله عزة الإسلام ، وسمو الإيمان :
إذا عدد الناس أربابهم *** فنحن لنا ربنا الواحد
ثم عاد إليها بمهر أكبر ، لكنها أبت واعتصمت ، بل ودعته إلى الإسلام وقالت : (( مثلك لا يرد ، لكنك رجل كافر وأنا مسلمة ، ولا يحل لي أن أتزوجك ، فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره ))، فهزت هذه الكلمات أعماقه ، وملأت كيانه ، وأسرجت النور في قلبه، فأجابها أنا على مثل دينك ، أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، وحصل الزواج وبارك الله فيه ، نماذج حية، ونفوس طاهرة نقية ، لابد أن نجعلها المثل الأعلى لشبابنا وشاباتنا، علنا نزرع في نفوسهم المقاييس الصحيحة والموازين الحقيقية.
اللهم أعنا على أنفسنا ، وبصرنا بعيوبنا ، ووفقنا إلى الهدى والصلاح .
عباد الله ، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً﴾ [ الأحزاب:56] .