جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 12-02-1440 09:17 PM الذِّكرُ وأيامُ العَشْرِ*
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فما زلنا في أعظم أيام الدنيا على الاطلاق، قال صلى الله عليه وسلم كما جاء عند البراز وصححه الألباني "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"[حديث رقم : 1133 في صحيح الجامع.].
إنها أعظم أيام العام، لهذا يعظم فيها شأن أي عمل صالح كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد فى سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" [رواه البخاري].
ولكن ألا يتساءل أحدنا لماذا عُظِّمَ شأن العمل في هذه الأيام خصوصًا على بقية أيام العام؟
لعل سرّ ذلك – والله أعلم – أن هذه العشر يظهر فيها الاستعداد والتهيؤ لشريعة الحج العظيمة من الأمة كلِّها، وهي الشعيرة التي تَجْمَع أشتات المسلمين، وتؤلّف بينهم، والعمل إذا ارتبط بجمع الكلمة؛ عَظُمَ شأنه، وعلا عند الله مكانه.
كما أنّ هذه العشر تجتمع فيها أمهات العبادات: الصلاة، والصوم، والحج، والنحر، وهي ولا شك من العمل الصالح، واجتماع ذلك كلِّه في مثل هذه الأيام؛ وهي آخر أيام العام، فيه مظهر من مظاهر المنة من الخالق على خلقه، حيث رتب سبحانه عظيم الأجر للعامل على عمل يسير في آخر أيام سنته، فيحصل له بذلك فضل كبير، مِن رفعة لدرجاته، ومحو لسيئاته، فيختم عامه بالأجر العظيم، والفضل العميم، فالحمد لله على منّه وكرمه.
ومِنْ الأعمال الصالحة الجليلة في هذه العشر ما جاء النص عليه، وتخصيصه في قوله صلى الله عليه وسلم: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" (رواه أحمد في مسنده برقم (5575). فما سرّ هذا التخصيص لهذا العمل بهذه الأيام؟
إنه التهليل والتحميد والتكبير -يا عباد الله-، إنه عملٌ لسانيٌّ يسير، لكنه من أجلِّ الأعمال في هذه الأيام، فما حالنا معه؟
إننا لو تأملنا هذه الكلمات، لوجدناها تمجيدًا وتعظيمًا لربنا سبحانه، وشكرًا وحمدًا لخالقنا، وهذا كله قد تَمَثَّل في عبادة الحج العظيمة التي هذا وقتها، وهذا أوانها، فالحجّ كلُّه تعظيمٌ وإجلالٌ للخالق، كلّه تسليم واستجابة للعظيم سبحانه.
معاشر الكرام، إننا إذا عظّمنا ربّنا، عَظُمَتْ عندنا شريعته، وأثّر فينا أمرُه ونهيُه جلّت قدرته.
إذًا، ليس الذكر بهذه الكلمات (التهليل، والتحميد، والتكبير) مجردَ إجراء لسانيٍّ لا مفهوم له، إنما هو تكريس وتثبيت لهذه القيمة العظيمة: تعظيمِ الربِّ وتمجيدِه، وحمدِه وشكرِه سبحانه، ولو تأملنا هذه الكلمات لوجدنا أنّ المطلوب فيها في هذه الأيام هو الإكثار، إذًا هي موجودة من قبل، وأما في هذه الأيام فالمطلوب قدرٌ زائد عن المعهود.
معاشرة الكرام، لابد أن ننشغل بها في ذهابنا وإيابنا، في بيوتنا وسياراتنا، في حلِّنا وترحالنا، إنها سهلة ميسّرة، لا تكلف عسيرًا، ولا تتطلب مشقة، فالخاسر من خسرها، وذهب عنه خيرها.
ولو تأملنا هذه الكلمات لوجدناها ماحيةً للسيئات، رافعةً للدرجات، مقربةً من ربِّ الأرض والسموات، إنها كلمات قليلة العدد، عظيمة الأجر، وما أحوجنا إلى عمل كهذا نختم بها عامنا، ونُذهِبُ به ذنوبنا، ونرفع به درجاتنا.
في هذه الكلمات ربطٌ للمخلوق بالخالق، تعليق للمخلوق بالخالق، فهل استشعرنا عظمتها، وقدّرنا أمرَها؟
هذه الكلمات لو تأملناها لوجدناها أنسبَ الأعمال لهذه الأيام، لأن المراد هو مشاركة الحجيج في هذه الشعيرة العظيمة، المطلوب هو أن تكون الأمة كلُّها منشغلةً بشأن الحج، تفكّر فيه، تستفيد منه، تشارك الحجيج أعمالَهم والفضلَ الذي ينالونه، ومِنْ ذلك الإكثار مِنْ التهليل والتحميد والتكبير، ولو تأمّل الإنسان لوجد أنّ الحاج يفعل ذلك تماما فهو يلهج بالتلبية "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، كما أنه يكبّر الله ويمجّده، قال صلى الله عليه وسلم: "ما أهل مُهِلٌّ قط، ولا كبّر مكبِّر إلا بُشِّر، قيل: يا نبي الله، بالجنة؟ قال: نعم" [رواه الطبراني، وحسنه الألباني]، وهذا كله تهليل وتحميد وتكبير لمن تأمله.
إنها مشاركة حقيقية في العمل والأجر، فمن فاته الحج؛ فلا يفُتْهُ هذا العملَ الجليل والأجرَ العظيم.
ومما يؤيد ذلك أن الحجاج يظفرون بيوم عرفة الذي تُغفر فيه الذنوب، وتُرفع فيه الدرجات، ويعوّض اللهُ غيرَ الحجاج صومَ هذا اليوم؛ لينالوا تكفير ذنوب سنتين؛ ماضيةٍ وقادمة، إنه تناغم يصعب تجاهله، لمن نظر فيه وتأمله، إنّ هذا يعني أن جميع الأمة في عبادة جليلة، فهي إما واقفةٌ بعرفة ترجو رحمة ربها، تنتظر البشارة في نهاية اليوم "أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له"[رواه الطبراني، وحسنه الألباني]، ( )، وإما صائمةٌ تَأْمَل غفران ذنوبها، والكلّ في الحالين يرقب غروب الشمس في يوم عرفة، لينال أجر الوقوف أو الصيام.
هذه الكلمات –يا كرام (التهليل، والتحميد، والتكبير)- فيها تهيئة للعيد، الذي هو موعدُ فرحة المسلمين بطاعة ربهم، والفوزِ بجائزته.
العيد هو يوم البهجة والسرور، هو يوم التواصل والمحبة، وفي تكرار هذه الكلمات لمدة عشرة أيام ليلاً نهاراً؛ تعويدٌ للسانِ على طيّب القول، وحَسَن الحديث، ليكون الإنسان مهيَّئًا يوم العيد لقول الكلمة الطيبة، ونُطْقِ العبارة الحسنة، ليكون الكلام الطيّب هو السائد يوم العيد، لتظهر المسامحة والمحبة، وتتوارى البغضاء والضغينة.
معاشر الكرام، إنّ كلَّ هذا درسٌ لنا، أنْ نتعاهد هذا اللسان بكل ما يصلحه، ومن ذلك كبح جماحه عن قول السوء وفاحشه، وتعويده على القول الطيب الحسَن، وذلك بالإكثار من الذِّكر، الذي منه التهليل والتحميد والتكبير، ولو فعلنا ذلك؛ لعالجنا خلل ألسنتنا التي أكثر بلائنا منها، فهلاَّ فعلنا ذلك؟.
اللهم أعنَّا على ذِكرِكَ وشُكرِكَ، وحُسْنِ عبادتِك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فمما يعتنى الناس بشأنه هذه الأيام، الأضاحيَ وأحكامَها، وهذا أمر محمود، وليعلم الإخوة الكرام، أنّ الأضاحيَ نوع من أنواع ذكر الله، معها يُكبر الله، ويُذكر اسمه، وهي شعيرة عظيمة من شعائر الله: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج : 32].
لهذا علينا –معاشرالكرام- أنْ نعظِّم هذه الشعيرة، وألاّ نستكثر الأموال فيها، وأنْ نبحث عن الأغلى والأسمن ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وكلما كان النوع أنفس، كان ذلك أفضل، قال سبحانه في شأنِ الهَدْي: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ [الحج : 36]، وإنما خصّ البدن دون غيرها؛ لأنها من أنفس بهائم الأنعام.
وقد اعتنى الشرع بهذه الشعيرة، من حيث خلوُّها من العيوب، لتكون على أحسنِ حال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة، وفي لفظ والعجفاء التي لا تنقي". [رواه الخمسة وصححه الترمذي " - (وقال الألباني: صحيح) برقم (1148)].
واعلموا -معاشر الكرام- أنّ التعبد لله سبحانه بذبح الأضاحي من أعظم القربات في يوم العيد، فليحرص كل منا على ذلك ما استطاع، ولو استدان من أجلها مع قدرة على السداد فلا بأس، قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أنْ يقع بالأرض، فيطيبوا بها نفسا"، [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني].
أرأيت -أيها الفاضل- إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "فطيبوا بها نفساً"، فلا تخرجْها مع التذمر والشكوى من غلاء السعر أو غيره، بل تقرب بها إلى ربكم فأنت في أعظم الأعمال وأزكاها.
ومِنْ تعظيم هذه الشعيرة ربطُ شأنِ المضحي بها، فقد أُمِرَ ألاّ يأخذ من شعره ولا ظفره شيئًا عند دخول العشر حتى يضحّي، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلاَلَ ذِى الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّىَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ" [رواه البخاري]، وذلك ليشارك الحجاج نسكَهم، وبُعْدَهم عن الترفُّه من جهة، وليكون في حال القيام بهذا العمل متذللاً خاضعاً لربه بعيداً عن صور الترف في جسده من جهة أخرى، وفي هذا إشارة إلى شهود المضحي أضحيتَه، وقيامَه عليها، وذبحَه لها، ولا يحسن ترك ذلك إلا لمن عجز عنه أو شق عليه.
والأضحية لها وقت محدد لا تجزئ قبله، وهو صلاة العيد، ومما ينبغي التنبّه له أن صلاة العيد من الشعائر العظيمة يوم العيد، فلا يصح ما يحصل من بعض الناس من التكاسل عنها، أو التباطؤ والتأخر، أو الانشغال بذبح الأضاحي، أو الوقوف أمام محلات الذبح قبل الصلاة، فهذا خلل عظيم، فلا يوجد في الإسلام صلاة يدعى إلى حضورها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، حتى الحيض؛ إلا صلاة العيد، لذا قيل بوجوبها وجوبًا عينيًا عند بعض أهل العلم، وجاء عن أم عطية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى" [رواه البخاري].
فكيف بعد هذا يبقى المكلفون في بيتهم، أو فرشهم، أو يقفون في سياراتهم أمام المسالخ والمطاعم، ويتركون الخير ودعوة المسلمين؟
اللهم اجعلنا لك من الذاكرين الشاكرين، ولسنة نبيك من المتبعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]. ______________________
* جامع البازعي – تبوك، 7/12/1429هـ.
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|