الشِّـتاء
(7/8/1421هـ)
الخطبة الأولى:
أما بعد،
فكم يحدث في هذا الكون من تغير، وكم فيه لمن تأمل من عبر، ليل ونهار، صيف وشتاء، حياة و موت، ذل و عز، فسبحان من بيده ملكوت كل شئ، ﴿يكوِّرُ الليل على النهار و يكوِّرُ النهار على الليل﴾، قبل أيام كنا في فصل وحال، و اليوم نحن في فصل وحال، كنا من قبل نشكو الحرارة والشمس، و اليوم نشكو الصقيع و شدة البرد، فسبحان الذي يغير و لا يتغير.
عباد الله، هذه وقفات مع الشتاء ببعضها نعتبر، وببعضها نتبصر، وببعضها نتذكر.
فسبحان الخلاق العظيم، المبدع الحكيم، خالق الأكوان، موجد الإنسان، الذي لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، يقلب الفصول بحكمته، ويغيرها بقدرته، ويحيطها بعلمه، جعل في تغيرها صلاح أحوال الناس و النبات و الطيور.
فسبحانه ما أعظمه من ملك قادر، وجبار قاهر، بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
فالق الإصباح بالنور المبين *** خالق الإنسان من ماء و طين
جاعل الليل لباساً والنها ** ر نشوراً للسعاة القاصديـن
أنـزل المـــاء فأحيــا خضـراً *** ينبت الحب و صبغ الآكلين
ومن النجم مصابيح هدى *** ومن البرق سنى للمدلجيـــن
جل من أبدعها في كونه *** قدرة تعيي لسان الواصفين
يا مؤمن، أَوَ تستطيع قوة في الأرض أن تحيل الشتاء إلى ربيع، والربيع إلى خريف، كلا، بل الكل تحت قهر الله وقوته، وعظمته وجبروته.
يا مؤمن، أو ما تذكرت وأنت تستقبل أيام الشتاء، ضعفك وشدة فقرك، إلى لطف ربك، جسمك الضعيف لا يحتمل حرارة القيظ، ولا صقيع الشتاء، أنت دائماً صاحب شكوى.
يا مؤمن، تذكر العظيم القادر، الجبار القاهر، واخضع له واضرع، فأنت الفقير إلى عفوه، وأنت المحتاج عونه، يا مؤمن، لم هذا الجحود والنكران، والتسويف والنسيان، تعيش في ملكوت الله، ويظهر لك جلياً ضعفك ومهانتك، ثم تبارز ربك بالمعصية، أو تجاهر أحياناً بالموبقة، قف وتأمل حالك مع الشتاء كيف تهرع إلى أنواع الملابس تحملها على ظهرك، خوفاً من الصقيع والبرد، يا هذا إن كنت لا تتحمل صقيع الشتاء ولا برودته فتذكر عذاباً عظيماً، وصراطاً منصوباً وجنة وناراً، وربما خزياً وعاراً، تذكر أن في النار عذاباً بالحميم والنار، والصهر والحرارة، وعذاباً بالبرد والصقيع، والقر والزمهرير، فكيف الصبر هناك، كيف التحمل هناك، كيف الحال هناك، قال صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لي فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر فهو من فيحها، وأشد ما تجدون من البرد فهو من زمهريرها"رواه البخاري ومسلم.
فيا ويح المبطئين عن طاعة الله، المعرضين عن شرع ربهم، يا ويح من تنكب الصراط، ونكص على الأعقاب، يا ويح من ألهته نفسه، وأعجبته ذاته، يا ويح من فرط في جنب الله.
يا من يخاف البرد في هذه الحياة، ألا تخاف يوم القيامة من عذاب الله، تأمل وتمعن في حالك ومآلك، في طاعتك وامتثالك، أو في صدودك وإعراضك، مالك أيها الإنسان ألا تعتبر ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾.
يا مؤمن، إن كان أهل النار يعذبون بالنار والزمهرير، فأهل الجنان ينعمون بالذهب والحرير، يسعون في روضات الجنات، ورضوان رب الأرض والسماوات، لا شمس تحرقهم، ولا برد يقلقهم، ولا عدو يخيفهم، ولا سقم يصيبهم، ما أعظم النعيم، وما أروع التكريم، قال ربنا الخلاق، عن جزاء المؤمنين المتقين الذين خافوا ربهم، وصبروا على حر الصيف، وقر الشتاء، فما تركوا صلاة، ولا تثاقلوا عن خير، أعانوا المساكين، وكفكفوا دموع اليتيم، وأطعموا الطعام، ونشروا الخير وطيِّب الكلام، قال سبحانه ممتناً عليهم فلا حر ولا قر: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ [سورة الإنسان].
يا الله ما أعظم النعيم، فيا من آذاه حر الصيف وقر الشتاء، اصبر عليهما حتى تفوز بالراحة الأبدية.
يا مؤمن، تذكر والشتاء يظلك أن للمؤمنين مع الشتاء أحاديث وأسراراً، وأحوالاً وآثاراً، وعملاً واصطباراً، الشتاء يا مؤمن طويل الليل، فالله الله بركعات في السحر، تناجي فيها ربك وتخلو فيها بنفسك، تسحّ دمعة حرّى على الخدين، تتضرع إلى من أوجدك، تسأله من خزائن جوده، فالشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه، لا تضيع الساعات في قيل وقال، فدقائق الليل غالية وأسهمه لا تخطئ، ودعاؤه لا يرد، ولكن أين المشمرون العاملون، قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آيه كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" صحيح الجامع [6315].
في قيام الليل وجد العارفون بغيتهم، ولقي فيه العابدون أنسهم فصبروا وظفروا، كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم "يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له في ذلك، فيقول أفلا أكون عبداً شكوراً".
يبيـت ليلتــه سهران مجتهــداً *** وقد تغلغلت الأورام في القدم
أزيز صدرك في جوف الليل سرى *** ودمع عينيك مثل الهاطل العمم
فيا خسارة المفرطين، على الأوتار والصور يسهرون، ولدقائق الليل يضيعون، ما بالهم ألا يدركون، ألا يؤمنون، ألا يفكرون، ألا يعقلـون ؟.
يا مؤمن، ليكن لك نصيب من الليل، وحافظ من قيام الليل ولو على الوتر بعد العشاء، حتى لا تضيع سنوات العمر وتذهب دقائق الزمن في خسران ووبال.
يا مؤمن، وهذا نهار الشتاء قصير فاغتنم صيامه، حتى تربي نفسك على الصبر والمراقبة، والخوف والمحاسبة، كفانا إضاعة لنفوسنا، وانسياقاً وراء شهواتنا، لابد من كبح جماح الشهوة، ورد جنوح الصبوة، وأمامك الآن الغنيمة الباردة ليل طويل للقيام، ونهار قصير للصيام.
يا مؤمن، قد جاء الشتاء ببرودته فكيف أنت وإسباغ الوضوء، والصبر على المكاره، في الشتاء تأنس النفوس للفراش الدافئ، وتثقل عليها صلاة الفجر، ويتعاسر عليها إسباغ الوضوء، فأي همة هذه التي تبعث المصلين من مراقدهم، يتعرضون فيها للبرد والصقيع، إنهم يريدون رضا ربهم، لذا جزاهم الله خيراً عظيماً، قال صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة"، وقال صلى الله عليه وسلم : "من صلى البردين دخل الجنة" والبردان هما: الفجر والعصر.
أما أهل الوضوء والطهور، فلهم مع الشتاء شأن، فهم يصبرون ويكابدون، فهم للغرة يطيلون، وللوضوء يسبغون، قال صلى الله عليه وسلم في شأنهم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" رواه مسلم.
فيا مؤمن، تذكر كلما ضعفت الهمة هذه الأحاديث العظيمة، والأجور الكبيرة، واغتنم هذه الليالي فإنها والله غنيمة..
عباد الله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنَه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد.
فلِشتاء مع الفقراء والمساكين، والأيتام والمحتاجين أخبار وأسرار، وأنت أيها الفاضل تجلس في بيتك الدافئ، أبناؤك يحيطون بك، السعادة غامرة، والأطعمة متوافرة، والدار عامرة، لكن أخا الإسلام، لابد أن تدرك أنك لست وحدك في هذه الحياة، بل لك إخوان لهم قصص تدمي القلوب، وأحاديث تستمطر الدمع من الصخر الجلمود، توالت عليهم نوائب الدهر، وثقلت عليهم أعباء الحياة، فطردت الابتسامة من أفواه الصغار، ورسمت المأساة على جباه الكبار، حتى أحاطت بهم سباع الرذيلة، يستغلون ضعفهم، ويبتزون كرامتهم، ويدوسون عزتهم.
يا مؤمن، إخوانك المحتاجون، الفقراء المعوزون، ينتظرون أياديك البيضاء، ويأملون فيك وفي أمثالك من الكرماء.
يا مؤمن، قبل أن تلج دارك تذكر كم من امرأة أقلقتها الهموم، وعلتها الغموم، تسهر على أيتامها، تسقيهم دموعها، وتغذيهم أحزانها، لا تدري ماذا يأكلون أو يشربون، يكسر قلبها ملبسُهم ومظهرهم، يهد قوتها مرضُهم وحاجتهم.
كل ما تقدر عليه هو أن تضمهم إلى صدرها الحنون، وتعللهم بالمنى قبل المنون. من لها غيرك، أيها المحسن، من لها غيرك أيها المؤمن، يسأل عن حالها، ويكفل أطفالها، ويرفع بؤسها، ويسعد نفسها، ولا تنس أيها الفاضل، مع زمهرير الشتاء، ذلك اليتيم بثيابه الممزقة، ونفسه المكسورة، وقد سالت دموعه على خده، وآهاته سخنت أنفاسه، فباح بسره وروى إحساسه.
هذي دموعي في الحشا عبر السنين *** ضاقت بها الآهات في قلبي الحزين
أنا اليتيم أنا الفقير أنا الكليم *** أنا المشرد في البقاع أنا السجين
لا بيت يؤويني ولا ليلي يفيق *** لا سلو أعرفه سوى أملي الدفين
فيا سعادة ذلك الشهم الكريم، صاحب اليد البيضاء، التي تمسح دمعته، وتسد جوعته، وتستر عورته، وتبقي كرامته، جاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل" يالها من كرامة، يا لها من فضيلة، يالها من صحبة، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى".
أسر تُغلَق عليها الأبواب، تُستر فيها عورات خلف الحجاب، لا معيل لهم ولا أصحاب، البرد يجلدهم بسياطه، والليل يغطيهم بهمومه وآلامه، بعضهم يسكنون دون فراش، وبعضهم يعيشون بلا أبواب ولا نوافذ، اختاروا الستر وراء تلك البيوت المهلهلة على استجداء الناس، رفعوا شكايتهم للخالق لا للخلق.
لكن بحمد الله، الخير في هذه البلاد عظيم، بتكاتف الجهود بين الجمعيات الخيرية، وأصحاب الأيادي الندية، وأهل الخير والعطية، تُسد الجوعات، وتنفس -بإذن الله- الكربات، في صبيحة هذا اليوم مررت بيتاً تبرع لإصلاح بعض شأنه أحد المحسنين بمبلغ كلَّف عدَّة آلاف، فجزاه الله خيراً، وأجرى الله على يديه الرزق، وفتح له باب الخيرات وفعل الحسنات، لكن مازالت الحاجة قائمة، وأهل الخير أمثالكم يُنتظر منهم الكثير، لكنهم قد لا يعرفون الطريق إلى المحتاجين والمعوزين، فمن كان هذا حاله فليتصل بالجمعية الخيرية، أو ليأت إلينا نساعده في فعل الخيرات، وإيصال المعونات.
معاشر الفضلاء، كثيرون هم الذين يبدلون ملابس الشتاء، ويشترون الجديد، فمن كانت عنده ملابس مقبولة، فعليه أن يغسلها ويرتبها ويوصلها إلينا، فهناك أناس في أمس الحاجة إليها، فهناك أجساد آذاها البرد، وآلمها زمهرير الشتاء، وقاست كثيراً من البؤس والعناء.
يا مؤمن، لا تنس كذلك وأنت تعيش في هذه البلاد الآمنة، حرسها الله من كل سوء ومكروه، أن هناك شعوباً مسلمة لا تعرف النوم ولا الراحة، حروب طاحنة، وآلام متوالية، وجراح نازفة، بلاد مسلوبة، وأعراض مغصوبة، مشردون ومهاجرون، معذبون ومضطهدون، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، كيف حالهم في الشتاء، في الثلوج والعناء، آلام في الجسد، وآهات في الكبد.
أطفالهم لا يعرفون ابتسامة، ولا يدرون وطناً، يسامون عذاباً، ويعرضون سلعاً، يقاومون بأجسادهم الضعيفة زمهرير الشتاء، وآلام الفراق والعناء، شعوب مسلمة تطحن وتباد، ويعربد على أشلائها كفار وأوغاد.
نسبى ونطرد يا أبي ونباد *** فإلى متى يتطاول الأوغاد
وإلى متى تدمي الجراح قلوبنا *** وإلى متى تتقرح الأكباد
نشرى كأنا في المحافل سلعة *** ونباع كي يتمتع الأسياد
ونبيت يجلدنا الشتاء بسوطه *** جلداً فما يخشى العيون رقاد
إخوانكم في فلسطين ما زالت جروحهم نازفة، ودماؤهم راعفة، اجتمع عليهم برد الشتاء وخسة الأوغاد، وثقل عليهم بغي العدو وتخاذل الأنجاد، حول الأقصى ما زالت الدماء تسيل، ويكثر القتل والتمثيل، ويعلو الصراخ والعويل، مازال الأبطال هناك ينافحون ويكافحون، وهم لمساعدتكم ينتظرون، ولنخوتكم يستنهضون، فاستشعروا –رعاكم الله- قدر المسؤولية، وعظم التبعة، فالأمر عظيم، والخطب جسيم.
في سفح نابلس لهيب معارك *** وعلى جبال القدس صوت جهاد
قل للغفاة عن القتال ألا تروا *** ماذا يراوح قدسكم ويغادي
أأموت في كف اللئام وأنتم *** حولي ولم يهززكم استنجادي
يا نائمين على الحرير وما دروا *** أنا ننام على فراش قتاد
متلفعين دم المعارك ما لنا *** إلا الحصى في القفر ظهر وساد
ونبيت لا ندري أنصبح بعدها *** أم أن عين الموت بالمرصاد
يا نائمين وما دروا أنا هنا *** لسنا نذوق اليوم طعم رقاد
إخواننا – والدهر فرق بيننا- *** مدوا لنا منكم يد الإنجاد
يا مؤمن، لا تنس وأنت بين أهلك وإخوانك، وأصحابك وجيرانك، أخواناً لك تربطك بهم عقيدة عظيمة، ويصلك بهم أخوة وثيقة، لا تنسهم من دعوات صادقة، ومشاركات فاعلة، وإسهامات مؤثرة، ليكن لهم في أموالنا نصيب، وفي دعائنا حق، وفي إحساساتنا مجال، لأننا أمة الجسد الواحد يجب أن نشتكي ونتوجع مما يتوجع منه إخواننا.
عباد الله، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [ الأحزاب:56].
أ. د. عويض بن حمود العطوي