جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 02-20-1433 10:45 PM
العمل التطوعي*
الخطبة الأولى:
أما بعد.
فقبل ثلاثين عاماً أرادت محسنة تُدعَى (أم علي) أن تبني مسجداً، فتواصلت مع رجل له اهتمام بذلك، فاقترح عليها منطقة فقيرة في إفريقيا، فوافقت، فذهب هذا الرجل لأول مرة، ويقول لما وصل إلى هناك: "فصدمنا لما رأينا من مآسي وآلام يعيشها إخواننا ونحن عنهم غافلون، فقررنا تأسيس عمل تطوعي سميناه (لجنة مسلمي إفريقيا) ثم لما رأينا أن خير الإسلام شمل المسلم وغير المسلم؛ غيّر المسمّى إلى (جمعية العون المباشر).
فأنتج هذا العمل المبارك عدد من الجامعات، ومئات من البرامج، وأنْقِذَت به ملايين الأرواح، وأسلم بسببه أكثر من عشرة ملايين إنسان كما ذكر.
فجزى الله خيراً (أم علي) صاحبة المبادرة، وجزى الله خيراً ذلك الرجل الذي قدر الله أن يكون أداة الخير ومشعل النور في ذلك البلد، إنه د. عبد الرحمن السميط، رجل بأمة.
معاشر المؤمنين إنه العمل الخيري، العمل التطوعي الذي ربما حُرِمَ منه بعضنا.
أيها المؤمن بربِّه، هلاَّ تساءلتَ الآن كم مرة قمت بعمل تطوعي، تنفع به غيرك، وترضي به ربك؟ كم مرة فكرت في ذلك ؟ كم مرة شاركت في ذلك؟
قد تكون الإجابات مخيبة للآمال، فقد يستعرض بعضُنا عمرَه كلَّه، فلا يجد فيه لغير نفسه مجالاً، قد لا يجد ما يسعفه من ذكريات جميلة أنفقها في خدمة الآخرين ومساعدتهم؟
معاشر المؤمنين، أَويُعقَل هذا من أمة هي رائدة العمل التطوعي، هي منبع الاحتساب وطلب الأجر!
كيف تتأصل فينا الأنانية وحب الذات إلى هذا الحد حتى إن أحدنا لا يعرف إلا نفسه، ولا يعمل إلا لذاته، يسخر قدراته وإمكاناته لخاصة نفسه، ويُنفق وقته وماله على ملذاته وشهواته، دون أن يأبه بأحوال الآخرين؟
أيعقل أن يكون هذا هو حال المؤمن بالله، الموقن بالآخرة، وما فيها من نعيم وجحيم!؟
معاشر المؤمنين، ربما نطرح اليوم أمرًا غائبًا عن الأذهان، قليلَ الطرق في المجالس، لكنه مهم، ولكم سعدت عندما رأيت برنامجًا عن العمل التطوعي، أطلقه برنامج الأمير فهد بن سلطان الاجتماعي بتبوك، قبل فترة من الزمن.
والتطوع هو: العمل والمجهود الذي يقوم به الفرد لأمته ومجتمعه، ولا ينتظر في مقابله أجراً من أحد إلا من الله، ويكون هذا العمل اختيارياً من الفرد.
معاشر المؤمنين، لابد أن نُدرك أننا نحن المسلمين لنا نمط خاص في التفكير، مرتبط بإيماننا بالآخرة، وما أعد الله لأهلها من النعيم العظيم، أو العذاب الأليم، نحن نعمل بلا مقابل مادي حاضر، لأننا نأمل في الباقي الدائم، فأين أثر ذلك في حياتنا؟ أين أعمالنا وإسهاماتنا؟ أين مشاركاتنا وتفاعلنا؟
أصبح بعضنا اليوم عالة على غيره، بل أصبحنا لا نقدم شيئاً لبلدنا ولو كان يسيرًا، فطلابنا مستهلِكون في مدارسهم، لا يتربون على عمل تطوعي؛ كأنْ ينظفوا مدارسهم، أو يزرعوا شجراً، أو يخدموا الحي الذي يدرسون فيه، ، بل على العكس، أصبحوا هم المشكلة في بعض الأحيان، لأننا لم نستثمر طاقاتِهم، ولم نوجه قدراتِهم.
ترى اليوم أحدَنا يمشي إلى العبادة، إلى المسجد ولا يزيل عن المسلمين الأذى في طريقه، بحجة أن هناك جهةً مسؤولةً عن النظافة، بل زاد الطين بِلّة أن يكون بعضُنا معوَلَ هدمٍ، فيُلقيَ القاذوراتِ والأوراقَ في الشوارع، ومخلفاتِ البناء في الأماكن العامة، وكأن هذا البلد ليس بلدَنا، وكأننا لا نعيش فيه!
أين التطوع في هذا المجال، وأين التربية عليه في البيت والمدرسة؟ ألا نشعر بمسؤوليتنا، ألا نحس بغيرنا، ألا نريد أجرًا وثوابًا؟ أما سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر الله له" [رواه البخاري ومسلم]، ويقاس عليه كل أذى يتأذى منه الناس.
فتساءل يا مسلم، كم فرصة مثل هذه مرّت عليك ولم تستفد منها؟ كم زجاجة، كم حجرًا، كم وكم كان يمكنك أن تزيلها لكنك تجاهلت ذلك؟ أو لم يطرأ ذلك على بالك أصلاً؟!
عجيب والله أمرنا، نعيش في بحبوحة الإسلام وأمْنه، ومع هذا نتناسى آدابه وشرائعه، أما لفت أنظارنا ذلك الاهتمام البالغ، بكل ما فيه معونة للخلق، فلِمَ لا يكون ذلك دافعاً لنا للقيام بأعمال تطوعية تنفع الناس جماعية أو فردية؟ أما سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله -وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر" [رواه مسلم]؟
وهل يوجد صائم لا يُفطر أبدًا؟، وقائم لا يفتر أبدًا؟ وحتى لو وُجد؛ فهذا الساعي على الضعفاء في خدمتهم خير من ذاك، والسر أنه يعمل لغيره، وذاك يعمل لنفسه، وكلما كان العمل متعديًا نفعه للآخرين؛ كلما زاد أجره، وعظم ثوابه، قال صلى الله عليه وسلم، فيما حسنه الألباني في صحيح الجامع (176):"أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم، أو تكشفُ عنه كربة، أو تقضيْ عنه ديناً، أو تطردُ عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحبُّ إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً [يعني المسجد النبوي]، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً و لو شاء أن يمضيَه أمضاه، ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، و إن سوءَ الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل"
معاشر الكرام، تذكروا أن من عاش لنفسه؛ عاش صغيرًا، ومات صغيرًا، ومَن عاش لغيره؛ عاش كبيرًا، ومات كبيرًا، فلا تنشغل بمآل عملك الخيرّ، ومن سينتفع به، بل اهتم بكيفية أدائه، وكن أحد الباذلين الأخيار فو الله ما أحد منّا يعلم ما العمل الذي سينقذه عند ربه، تأمل –يا مؤمن- هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في الأدب المفرد (371/479) تأملْه بقلبك وعقلك، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها "، والفسيلة هي النخلة الصغيرة وهي (الوَدِيَّة) .
قال الألباني رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "و لا أدل على الحض على الاستثمار من هذه الأحاديث الكريمة، لاسيما الحديث الأخير منها، فإن فيه ترغيباً عظيماً على اغتنام آخر فرصة من الحياة، في سبيل زرع ما ينتفع به الناس بعد موته، فيجري له أجره، وتكتب له صدقته إلى يوم القيامة .
يا مؤمن مَنْ سينتفع مِن فسيلة تزرع على أبواب القيامة التي سيتغير معها كل شيء؟ لكنه العمل الطيب إلى آخر لحظة، فأين نحن من ذلك؟
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " متفق عليه.
إن ديننا العظيم ليثمن كل عمل خيري حتى ولو مع الحيوان، أما قال صلى الله عليه وسلم حاثًّا الصحابة: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" [رواه البخاري]، بينما "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ" [رواه البخاري].
تأملوا -يا كرام- سيرة الأنبياء العظام، كيف سخّروا وقتهم وجهدهم في نفع الناس وجلب الخير لهم، فهذا نوح -عليه السلام- يبقى ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو الناس للخير، ليلاً ونهاراً، وهذا موسى عليه السلام يجد امرأتين تحتاجان المساعدة، لا يعرفُهما، وهو متعب من رحلة طويلة، وهو مطارد من فرعون وملئه، ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24].
وهذا شعيب عليه السلام يهتم بمراقبة الأسواق، ويعمل على منع التطفيف في المكيال والميزان، قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [هود: 84 - 86] وهذا يوسف عليه السلام؛ يُسجن ما يقارب التسع سنين ظلمًا، وعندما يخرج لا ينتقم من مجتمعه، ولا ينقلب إلى مخرِّب مُدمِّر، بل خرج ليخدم بلده والناس المحتاجين، فعمل في خدمة الناس وتوزيع أرزاقهم، وتدبير أمورهم، ثم يثني على ربه بذلك ويقول: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ [يوسف: 100]، قال: وقد أحسن (بي) ولم يقل: (لي)، لقد كان هو أداة الإحسان إلى الآخرين، وهذا فضل يغفل عنه الكثير.
فمَن منّا اليوم يفكر بهذا التفكير؟ ويتحدث من خلال هذا المنطق؟ كفانا انكفاءً على ذواتنا، وانطواءً على أنفسنا وملذاتها، ليكن شعارنا نفع الآخرين، والسعي في حوائجهم، وسدَّ عوزهم وما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فذلك والله خيره لنا أولاً وأخيراً، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الترغيب والترهيب(2616):" إن لله عند أقوام نعماً أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين، ما لم يملوهم، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم" قال الألباني: (حسن لغيره).
اللهم ألهمنا رُشدنا، وسدد آراءنا، واهدنا سبل السلام، ووفقنا لعمل الخيرات، والبعد عن المنكرات، برحمتك يا رب العالمين.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_______________________________________
الخطبة الثانية:
أما بعد.
فقد يتساءل بعضنا ماذا يمكن أن أفعل؟ يمكنك أن تعمل الكثير، المهم أن تفكر بإيجابية، وإليك بعض الخطوات:
- فكّر في عملٍ نافع للناس في حيّك، أو قرب المسجد الذي تصلي فيه، قم بذلك بنفسك، أو بمشاركة غيرك ممن يقتنع بفكرتك.
- استثمر تخصصك أو خبرتك في تقديم ما تعرف للناس مجانًا، دون مقابل، فقد تكون طبيبًا، أو مهندسًا، أو معلمًا.
- فكّر في تقديم شيء من خبرتك للآخرين، ولن تعدم الطريق والأسلوب إذا صدقت النية، وقوي العزم.
- تواصل مع الجمعيات الخيرية، واعرض عليهم ما تستطيع القيام به، واصبر واصطبر، فأنت تبحث عن الأجر.
- شارك في الأعمال العامة والأنشطة المفتوحة إذا أقيمت، ولا تكن كلاًّ على غيرك، حتى ولو كنت كبير السن، أو متقاعدًا، فما زلت قادرًا على العطاء.
وحتى لا يخالطك اليأس، اعلم أن هناك من يعمل، فكن أحدهم. قبل فترة نشرت جريدة الرياض فكرة في أحد أحياء مكة، مفادها أنه تطوّع مجموعة من الحي بتكوين لجان لخدمة أهل الحي في مراجعة الدوائر الحكومية عنهم، والمطالبة بخدمات الحي نيابة عنهم، والعمل على خدمة الشباب فيه.
لن تعدم الطريقة إذا توجهت العزيمة وصحت النية.
اللهم ألهمنا رشدنا، وسدد رأينا، واشكر سعينا، ووفقنا لكل خير يا ربنا.
عباد الله، صلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، كما أمركم بذلك ربكم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
___________________
* ألقيت هذه الخطبة بجامع أبي بكر الصديق بحي الراجحي، في 19/2/1433هـ.
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|