جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 01-25-1433 08:58 PM
نحتاج في كلامنا، ونلحظ في كلام غيرنا ألفاظا محذوفة، وأخرى مكررة مذكورة، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن سر الحذف والذكر مع أنهما منتناقضان؟
وجوابا على ذلك لابد أن ندرك أن المقام والموقف والحالة التي عليها المتكلم أو المخاطب أو نوع الكلام يؤثر في ذلك كثيرا، وعلى فليست البلاغة هي في مطلق الإيجاز، ولا مطلق الإطناب (الذكر)، بل البلاغة استخدام كل نوع في موقعه الذي يتطلبه.
أولاً : الحذف .
يعد الحذف من الأساليب الدقيقة جداً في اللغة العربية حتى سماه ابن جني ((شجاعة العربية )) وقد لا تظهر دلالة الحذف في اللغات الأخرى كما تظهر في العربية، وبالتتبع وجد أن المحذوفات في اللغة العربية كثيرة ، ولكننا يمكن أن نجملها فيما يأتي :
1- حذف الحرف .
2- حذف الكلمة.
3- حذف الجملة.
1- حذف الحرف .
يمكننا أن نمثل لحذف الحرف بقوله تعالى عن موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً }الكهف64 ، فنجد الياء محذوفة في (نبغ) دون مسوغ نحوي ولا صرفي ( أي لم تسبق بجازم أو غيره ) فما السر وراء حذفها إذا ؟
يقول بعض المفسرين سبب الحذف هو التخفيف، لكننا يمكن أن نقول زيادة على ذلك إن الحذف هنا مصور للواقع ، فموسى عليه الصلاة والسلام كان متشوقاً للعَلاَمة التي يعرف بها مكان الخضر وهي فقدان الحوت ، فلما سأل غلامة عن السمكة التي أعدها لغدائه ذكر له أنها خرجت من المِكْتَل ودخلت في الماء ، ففرح عليه السلام بذلك فقام مسرعاً للمكان الذي فُقدت فيه السمكة، ومعلوم أن المستعجل ينسى- غالبا- بعض مايريد، وأحياناً يسقط منه بعض متاعه ، فسقوط الحرف هنا يصور سقوط المتاع من المستعجل.
وقال تعالى في مشهد آخر: (( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ))
فنجد هنا سقوط التاء من(اسطاعوا) الأولى، دون الثانية(استطاعوا) وذلك لأن ظهور الجدار وتسوره أسهل من نقبه، فجيء مع الأسهل بالكلمة ذات الحروف الأقل (اسطاعوا )، وجيء مع الأصعب بالكلمات ذات الحروف الأكثر، تمشياً مع القاعدة القائلة " زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ".
2- حذف الكلمة.
الكلمات المحذوفة كثيرة في اللغة، فقد يحذف المبتدأ وقد يحذف الخبر وقد يحذف المفعول وقد تحذف الصفة، وقد يحذف الحال، وقد يحذف غير ذلك.
ومن أمثلة حذف المبتدأ قول الله تعالى: (( وامرأته قائمة فصكت وجهها وقالت عجوز
عقيم ))، فكلمة (عجوز) خبر المبتدأ المحذوف، وتقديره: أنا عجوز عقيم، لكن طُوي المبتدأ لضيق المقام -بسبب الفرح- عن إكثار الكلام ، فزوجة إبراهيم عليه السلام ماكانت تتوقع أبداً البشارة بالولد ، فلما سمعت ذلك من الضيوف الذين قدموا على إبراهيم ( الملائكة )، ضربت بيديها على وجهها إظهاراً للاستغراب وإمعانا في الاندهاش، فقالت: ( عجوز )، فطوت المبتدأ لأنها أرادت أن تذكر لهم سبب استغرابها ولاحاجة لإيراد المبتدأ لوجودها أمامهم، فقالت مباشرة: عجوز، دون (أنا).
ومن حذف الصفة ماجاء في قوله تعالى عن نعيم الجنة : {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ }[ص51]، فنجد هنا أن الفاكهة وصفت بـ(كثيرة) بينما الشراب حذفت صفته ، ولست أرى السر هو دلالة ماقبلها عليها، بل السر في هذا -والله أعلم- هو بيان عظيم نعيم أهل الجنة، وذلك أنه لما كان التلذذ بأنواع الفاكهة شيئاً معلوماً في الأذهان ومحسوسا في الأذواق، ذكر الله لهم الصفة الدالة على كثرة تلك الفواكه سواءً في نوعها أم كميتها ، أما الشراب فمعلوم أن الآكل يتفكه بأنواع من الفواكه، ولكنه يكتفي –غالبا- بشراب واحد، لذا لم يُحتج لوصفه بالكثرة، إضافة إلى أن الشراب إذا اطلق قصد به الخمر، وعلى هذا فهو نوع واحد لذلك لم يوصف.
ومن لطائف هذه الآية ، الاقتصار على دعاء الفاكهة والشراب، للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي .
ومن شواهد حذف الحال قوله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }البقرة127، فنجد هنا حالاً محذوفة قبل قوله: (ربنا تقبل منا) تقديرها : قائلين أو يقولان ، لكن ما جاء في الآية من الحذف هو الإعجاز؛ لأن الذي في الآية حياة والذي في تقدير المحذوف حكاية ، وفرق كبير بين الحياة والحكاية، وبيان ذلك أنه لما طُوي الحال تجسد المشهد أمام المتلقي، حتى لكأننا نسمع أصواتهما وهما يرددان الدعاء ، ولكن لو ذكر المحذوف ، فقيل (يقولان) أو (قائلين) لكان ذلك نقل لخبرهما.
3- حذف الجملة:
أحيانًا يشتمل الكلام على جمل كثيرة يمكن الاستغناء عنها، لعدم تعلق الغرض بذكرها، ولوفاء المعنى دونها، ومثل ذلك من الجمل حذفه هو البلاغة، تأمل قول الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}يوسف45،46 . فستجد حذفاً لجمل عدة، بين كلمتي: (فأرسلون) التي وقعت رأسًا للآية و كلمة (يوسف) التي وقعت في بداية آية جديدة، ويمكن أن نقدر تلك الجمل بعد كلمة(فأرسلون) على النحو الآتي: فأرسلوه ، فدخل على يوسف عليه السلام في السجن، فسأله قائلاً: ( يوسف أيها الصديق ) ، فنجد ثلاث جمل قد حذفت، والسر في ذلك أنه لاحاجة لهذه الأحداث؛ لأنه لاقيمة لها في القصة، وأيضا للتدليل على سرعة انتقال هذا الرجل من القصر إلى السجن، ولا عجب في ذلك فقد تذكر وصية يوسف عليه السلام له وشأنه في تأويل الرؤيا فبادر بسرعة للذهاب إلى يوسف، وقص الرؤيا عليه.
ومن لطائف هذه الحادثة أن يوسف عليه السلام لم يحجب ماعنده من الخير عن السائلين المحتاجين لعلمه وعونه، كما أنه لم يعنف ولم يعاتب هذا الرجل الذي نسي وصيته من قبل، وبقي بسبب ذلك في السجن بضع سنين، ولا عجب فهذه أخلاق الأنبياء.
ثانياً: الذكر.
الذكر هو الأصل ، والأصل أنه لايسأل عن الأصل، لكنا نسأل هنا عن الذكر إذا كان الكلام -في ظنّنا- يستغني عنه، مثل الصور الآتية :
1 – الزيادة في جواب السؤال .
قال تعالى: (( وماتلك بيمينك ياموسى )) مقتضى الكلام أن يقول في جوابه: عصا، لكن موسى عليه السلام أجاب بأكثر من هذا فقال: (( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى )) فزاد ما يأتي: (هي) و(ياء المتكلم) في عصاي، ومابعد ذلك من الجمل، فكان قدر مازاد من الكلمات اثنتي عشرة كلمة، وذكر قضايا تتعلق باستخدامات العصا، وهو لم يُسأل عن نفعها أوسبب اقتنائها([1]).
وسر كل ذلك – والله أعلم- أن موسى عليه السلام لما كان يناجي رب العالمين، وهذه منزلة عظمى، ومنحة كبرى، حاول عليه السلام أن يطيل في الكلام إلى أقصى حد ممكن، وهذا أمر معلوم عند الناس ، فالإنسان يحب التطويل في الكلام مع من يأنس إليه أو يرتاح معه، يقول ابن عاشور: " ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى عليه السلام أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث".
2 –المسلمات والبديهيات:
وهي التي لا تتوقف معرفتها لو حذفت على نظر أو كسب بل هي كالضروي ، وقيل هي ما يفرض نفسه فرضاً على العقل ولا يترك مجالاً للشك([2]) .
قال الله تعالى: (( فخر عليهم السقف من فوقهم ))، ومعلوم أن السقف لايسقط إلا من فوق فما فائدة ذكر الفوقية هنا ؟.
الجواب، ذكرت الفوقية هنا للتدليل على شدة ما أصابهم من العذاب والهلاك؛ لأن ذكر الفوقية يقضي أن السقف وقع على رؤوسهم دون حائل ، ولو لم تذكر الفوقية فقيل: (( فخر عليهم السقف ) لربما دل ذلك على أنه لم يصلهم بسب بعدهم عنه، أو أن هناك دعامات ردت هذا السقف عنهم،كذلك في ذكر الفوقية دليل على أن هلاكهم كان شاملاً، ولو لم تذكر فربما يفهم منه أنه سقط من جانب على بعض منهم دون بعض، كما أن وجود (من) الجارة قبل(فوقهم)، أشعرت بقرب هذا السقف وهذا أشد في تمكنه منهم، وعدم قدرتهم على الفكاك منه، بينما لما كان الطير بعيدًا في السماء قال سبحانة: (أو يروا إلى الطير فوقهم) بدون (من).
ومن هذا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46، فقوله تعالى: (( التي في الصدور )) أمر بديهي فما سر ذكره؟
الجواب ، أنه سبحانه لما نسب العمى إلى غير موطنه المعروف وهو العين كان لابد من تأكيد النسبة لهذا الموطن الجديد، ونفي التوهم الذي قد يحدث بسبب غرابة النسبة، فعلمنا بذكر (( التي في الصدور )) أن النسبة مقصودة للقلب المعروف لا للعين، فأدركنا بهذا أن القلب يعمى كما أن العين تعمى، يقول الفراء والزجاج : إن قوله (التي في الصدور) من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام كقوله : { عشرة كاملة } و { يقولون بأفواههم } و { يطير بجناحيه).
3- التكرار اللفظي والمعنوي.
وخير شاهد لذلك هو التوكيد اللفظي والمعنوي، مثل قولك: الصدق الصدق، وقولك: حضر الأمير نفسه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً* وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }الفجر21،22، فنلحظ هنا كيف تكررت كلمة (دكا) ، وقد أفاد ذلك تكرر الدك - الذي هو: حط المرتفع بالبسط- وبالتالي شدة التحطم، والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى، حتى انبسطت وذهب ارتفاعها، وفي توالي الكلمتين دون فاصل إشعار بأن الدك كان متتابعًا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور.
ومثل ذلك: (صفًا صفًا) في قوله تعالى: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} في دلالة التكرر المشعر بالكثرة، والتوالي المشعر بالانتظام والدقة، وهذا أعظم في دلالة الهيبة والتعظيم.
4- التفصيل والتقسيم.
كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }النور45.
فإن في ذكر هذه الأقسام من المخلوقات الداخلة تحت قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور : 45] ما يزيد الشعور بعظمة الخالق سبحانه.
5- الخاص بعد العام، والعكس.
كقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }البقرة238، فنجد هنا كيف ذكرت الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات وهي داخلة فيهن، فما سر إفرادها بعدهن؟
جواب ذلك، أن هذا من قبيل عطف الجزء على الكل للاهتمام بذلك الجزء، وهو هنا الصلاة الوسطى.
ومثله قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر : 4]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، لكن إفراده يدل على فضله وتميزه.
وأما عطف العام على الخاص فكقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم : 4]، فقد عطفت الملائكة وهي الأعم على جبريل وهو بعض منهم، وسبب ذلك: إرادة التعظيم بذكر الجمع بعد الفرد.
تدريبات
عين المحذوف والمذكور فيما يأتي، وبين نوعه، واكشف سره البلاغي؟
· قال تعالى في شأن بني إسرائيل:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[61 البقرة].
· قال تعالى (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما*إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً }الواقعة26
· قال تعالى {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً }الفجر19
____________________________
([1]) ومن اللطائف أن هناك من أفرد فوائد العصا بمؤلف ، وقد عدوا من ذلك قول بعض العرب : "عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة إداوتي، أستعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني" انظر فتح القدير 3/507.
([2]) - انظر في هذا البدهيات في القرآن الكريم دراسة نظرية، للدكتور . فهد الرومي ص 10.
|
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|
Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0 Copyright© Dimensions Of Information Inc.
Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.
الرئيسية
|الصور
|المقالات
|الأخبار
|الفيديو
|الصوتيات
|راسلنا | للأعلى
لتصفح أفضل:
استخدم موزيلا فايرفوكس
|
|