تابعنا على الفيس بوك تابعنا على تويتر تابعنا على اليوتيوب تابعنا على الساوند كلاود


الرئيسية السيرة الذاتية الخطب الصوتيات المرئيات المقالات و البحوث الدورات الجامعة الصور تدبر القران الإصدارات الشهادات و الدروع المشاركات و الأنشطة

 

 
جديد الفيديو
 

 
المتواجدون الآن

 
01-25-1433 08:35 PM


image

سبق أن ذكرنا أن تريب الكلام المكتوب أو المنطوق هو صورة لترتيب المعاني في النفس، ولهذا نجد الأساليب تختلف في المعنى الواحد بحسب مراد المتكلم وغرضه، فقد يقول قائل: أنا ما كتبت الرسالة، ويقول آخر: ما أنا كتبت الرسالة، ويقول ثالث: ما كتبت الرسالة، وكل منهم على حق، وسنعرف تفصيل ذلك إن شاء الله.
لنتأمل الآن قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، لم يقل إبراهيم عليه السلام: يحيي ويميت ربي، لأن الفرق كبير، فتقديم (ربي) على (يحيي) يفيد الحصر، أي: لا محيي ولا مميت إلا الله، ولو قيل: يحيي ويميت ربي، لكان المراد نسبة الإحياء والإماتة إلى الله على سبيل التوكيد، لا الحصر، والمقام هنا مقام جدال، وهو مما يقتضي الحصر، ولهذا رد المعانِد بالأسلوب نفسه فقال:أنا أحيي وأميت، لأن موضوع النزاع هو: مَن المتفرد بالإحياء والإماتة؟ أما الفعل ذاته (وهو الإحياء والإماتة) فهو واقع والكل يقر به، ولا أحد ينكر ذلك لكن النزاع في المدبر لهما من هو؟
وإذا كان في هذه الآية قد قدّم الفاعل، فإننا نجد في مواطن أخرى تقديم الفعل، كقوله تعالى: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [ص: 8]، فتقدَّم الفعل (ألقي) وولي الهمزة؛ لأن موطن النزاع هو إنزال القرآن، المعبر عنه بالإلقاء، ولو قدم نائب الفاعل (الذكر) لقيل: أالذكر ألقي عليه؟ ولكن ليس هذا موطنه ولا مجاله، لأن المعنى حينئذ يتجه إلى المُلقَى أهو القرآن أم غيره، ويكون الإلقاء حاصلاً.

أقسام التقديم:
تقديم بعض الكلام على بعض له قسمان كبيران، الأول: ما يتعلق بالإسناد والتركيب. والثاني: التقديم في غير الإسناد.
فأما الأول -وهو ما يخص الإسناد- فهو على قسمين:
1- ما كان على نية التأخير: كتقديم المفعول على فعله، كقولك: كتاباً اشتريت، فنحن هنا نجد كلمة (كتاباً) مقدمة على الفعل (اشتريت) وهي مفعول به ولم يتغير حكمها، ومعلوم أن موقع المفعول الأصلي هو بعد الفعل والفاعل، فنحن وإن قدّمنا اللفظ عن مكانه؛ إلاّ أننا احتفظنا له برتبته وهي المفعولية.
ومن أمثلة هذا النوع في القرآن قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، فـ(إياك) في الموطنين مفعول مقدم، وليس السر -كما يقال- هو رعاية الفاصلة، (التي هي نهاية الآيات)، بل المقصود من التقديم هو الاختصاص فيكون المعنى: نخصك بالعبادة يا ربنا ونخصك بالاستعانة، وكقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ [الحاقة: 31]، فأصل الكلام: ثم صلوه الجحيم، ولكن لأن التصلية واقعة فهو معذب بأي حال، فكان المهم هنا هو النص على موضع التصلية؛ لأنها ما يجلِب الهلع، ويربي الخوف، لذا قدم المفعول لتقديم البشارة بالعذاب له.
ومن ذلك تقديم متعلقات الفعل عليه مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى شيخاً يهادى بين ابنيه: "ما بال هذا" قالوا: نذر أن يمشي، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب"[رواه البخاري].
والتقدير إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم تعذيب الرجل لنفسه، على الإخبار بغنى الله عن ذلك، لأنه الحدث المهم الذي يريد إنكاره صلى الله عليه وسلم عليه.
2- تقديم لا على نية التأخير وهو الذي تنتقل فيه الكلمة من حكم إلى حكم.
كقولك: (أحمد أخوك)، ولك أن تقول: (أخوك أحمد)، فهنا تغير حكم كل الكلمات، فالخبر أصبح مبتدأ والمبتدأ أصبح خبراً.
ومن هذا النوع: تقديم المسند إليه على خبره الفعلي، وهو يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأنه من الموضوعات المهمة في موضوع التقديم في الإسناد، وتقديم الفاعل المعنوي على خبره الفعلي له ثلاث صور: ثنتان منها مع النفي، وواحدة دونه.

- التقديم مع النفي، وله صورتان:
الصورة الأولى: أن يتقدم حرف النفي ثم يليه المسند إليه ثم يليه الخبر الفعلي، والخبر الفعلي هو (الفعل وما ينوب منابه مثل: اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة)، مثال ذلك قول الشاعر:

ما أنا أسقمت جسمي به *** ولا أنا أضرمت في القلب ناراً

فنلحظ هنا كيف تقدم النفي (ما) ثم المسند إليه الضمير (أنا)، ثم الخبر الفعلي (أسقمت)، ومثل ذلك قولنا في كلامنا: (ما أنا كتبت الخطاب)، وهذه الصورة يدل التقديم فيها على القصر (الحصر) ويلزم من هذه الصورة ثلاثة أشياء.
أ-ثبوت الفعل (المسند).
ب-نفيه عن المسند إليه.
ج-ثبوته بالضرورة لآخر.
فلو عدنا إلى المثال السابق لوجدنا أن الكتابة مثبتة أو واقعة، وأنت تنفيها عن نفسك ولا بد بالضرورة أن تثبتها لغيرك؛ لأنه لا يوجد فعل بلا فاعل، وعلى هذا فلا يصلح أن نقول: (ما أنا كتبت الخطاب ولا أحد غيري)، لأن في هذا تناقضاً، إذ كيف تثبت الكتابة أولاً، وهذا يعني أنه لا بد لها من فاعل، ثم تنفيها عن نفسك وعن غيرك، فتكون بهذا قد نقضت ما أثبت سابقاً، وبقيت الكتابة لا كاتب لها.
ويتحقق القصر في هذه الصورة بوضوح إذا كان المسند إليه ضميراً مسبوقاً بنفي وبعده فعل، وقد يحصل القصر بمعونة السياق إذا كان الخبر مشتقاً، وهو يدخل في مصطلح (الخبر الفعلي) كقولنا: (ما أنا كاتب هذا الخطاب)، وشاهد ذلك من القرآن قول قوم شعيب عن شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: 91] فهذا التركيب يدل على ثلاثة أشياء:ثبوت الفعل وهو (العزة)، ونفيه عن المسند إليه (شعيب)، وإثباته لقومه، ومما يدلنا على أن هذا التركيب جاء للقصر بدلالاته الثلاث المذكورة، رد شعيب عليه السلام لهذا القول حيث قال: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [هود: 92]، فالملحوظ هنا أنه عليه السلام فهم أنهم قدموا (رهطه) على الله، مع أنه لم يأت لرهطه ذكر في نفي قومه للعزة عنه، ولو أرادوا نفي العزة عن شعيب دون إثباتها لرهطه لقالوا: (وما عززت علينا) دون تقديم المسند إليه، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 167] ففي هذه الآية تركيب دال على القصر بالمعاني الثلاث السابقة وهي هنا: ثبوت الخروج من النار، ونفيه عن الكفار، وإثباته بالضرورة لمن يدخل النار من المؤمنين، لكن لما كانت بعض الفرق ترى خلود صاحب الكبيرة في النار، رفض أصحاب هذا المبدأ هذه الدلالة وعل رأسهم (الزمخشري) فهو معتزلي، حيث قال إن التقديم هنا ليس للحصر بل هو للتقوية والتوكيد فقط، وهذا يعني عدم وجود المعاني الثلاثة المشار إليها من قبل، رغم أنه في المواطن المشابهة لهذا يقول بالقصر كالآية السابقة في شعيب عليه السلام، لكن لما صادمت الدلالة معتقده حاول تطويع القاعدة البلاغية لمذهبه المعتزلي القائل بخلود صاحب الكبيرة في النار وعدم خروجه منها مع بقاء مسمى الإيمان له.

الصورة الثانية: أن يتقدم المسند إليه ويليه النفي ثم يأتي خبره الفعلي، مثاله: (أنا ما كتبت الخطاب)، وهنا يكون المراد نفي الكتابة عن المسند إليه من غير ضرورة لإثباتها لغيره، فلا يكون المدلول هو القصر، ويقال هذا الأسلوب إذا كان الفعل وهو هنا الكتابة غير واقع أصلاً، أو لا يعلم المتكلم بذلك، إما إذا كان موجوداً، والمتكلم عالم بذلك، وأراد نفيه عن نفسه فلا بد من سلوك الطريقة الأولى، لأنه لابد لكل فعل من فاعل.
3- التقديم في الإثبات، وصورته: أن يتقدم المسند إليه على خبره الفعلي مع عدم وجود النفي بالكلية مثل: (أنا كتبت الخطاب)، فالأصل في هذه الصورة أن التقديم يدل على التقوية والتوكيد، ويكون في مواطن الشك أو الضمان أو العقود، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72]، وسبب التوكيد والتقوية في هذا التركيب هو تكرار الإسناد للفاعل، حيث أسندت الكتابة (وهي الفعل) إلى المبتدأ (وهو فاعل معنوي) مرة، وإلى الفاعل (النحوي) مرة أخرى، والمبتدأ والفاعل في هذا التركيب شيء واحد، فـ(أنا)، و(التاء) في المثال المذكور دالتان على شخص واحد، فكان هذا التركيب (أنا كتبت) في قوة قولك: (كتبت كتبت).
وقد يدل هذا التركيب على القصر بمعونة السياق، كما ورد في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3] ، أي نحن لا غيرنا، وهذا كثير فيما يخص صفات الله سبحانه.
ومن صور التقديم، تقديم كلمة (مثل أو غير) كقولك: مثلك لا يخلف الوعد، فهذا أروع وأفضل وأبلغ من لو قلت: أنت لا تخلف الوعد، لأن تقديم كلمة (مثل) في هذا المثال يوحي للمخاطب بشيء من المدح، رغم أنه موقف عتاب، حيث إنك أوحيت إليه أنه منتخب من صفوة معروفة بعدم إخلاف الوعد، وفي الوقت ذاته أوقفته على الخلل الذي عنده، وهو إخلافه للوعد في هذه المرة، وكأنك تعطيه دليلا أن هذه الصفة المنكرة عليه، ليست من ديدنه وعادته، بل هي طارئة وحادثة، وأنت في الوقت ذاته لا توجه ذمّاً لغيره، ولا تجرح سواه، ومن هذا القبيل قولك معاتباً صاحبك: غيرك يخلف الوعد يا فلان، فانظر لطف هذا الأسلوب ورقته وجماله ووفاءه بالمعنى، في مقابل قولك: أنت مخلف للوعد، أو خُلْف الوعد عادتك وطبعك، ومثل هذا في حالة المدح قولك: مثلك يفي بالوعد، وقول الشاعر:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع *** إن قاتلوا جبنوا وحدثوا شجعوا(1)
فكأنه قال: أنا لا أنخدع بالناس، وجعل ذلك صفة لغيره، فهو إن حصل لا يحصل منه.
ومثله قول الشاعر:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم *** فكأنني سبـابة المتنـدم(2)


_______________________________________



(التقديم والتشويق)


للتقديم أثر كبير في لفت الانتباه، وجذب اهتمام المخاطب وتشويقه للخبر خصوصاً إذا كان المقدم أمراً غريباً، أو مبهماً، ومِن ذلك تقديم الأعداد مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اثنان أو منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال".
وقول الشاعر:
ثلاثة ليس لها إياب *** الوقت والجمال والشباب
وقول الآخر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم *** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فقدمت هنا الأرقام للتشويق ولهذا الأسلوب أثر كبير في النفس، فإن المعلومة التي تأتي بعد تشوق وتشوف أثبت من غيرها.
ومن تقديم المبهمات (كالأسماء الموصول) قول أبو العلاء المعرّي:
والذي حارت البرية فيه *** حيوان مستحدث من جماد
فعند سماع الشطر الأول من البيت؛ تتشوف النفس لمعرفة مَنْ هذه صفته، فإذا سمع الشطر الثاني؛ تجلّى له المعنى، وثبت واستقر.
- التقديم في غير الإسناد
ما سبق ذكره هو لون من ألوان التقديم، وهو الذي تبارى فيه البلغاء، وكثر وروده في الكلام، ومجاله الجملة بفرعيها، وهناك أنواع أخرى مهمة، لها مدلولات لا بد من الوقوف عندها، ليس الرابط فيها هو الإسناد.
وقد ذكر صاحب الطراز أن صور هذا النوع أربعة هي:
1- تقديم العلة على المعلول، والسبب على المسبب.
2- تقديم الذات كتقديم الواحد على الاثنين.
3- التقديم بالشرف كتقديم الأنبياء على غيرهم.
4- التقديم بالزمان كتقديم الشيخ على الشباب.
وهذا النوع يطول الكلام فيه، ولا توجد له ضوابط محددة، لذا يفسر كل تقديم في موضعه، وسنورد على ذلك بعض الشواهد، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [الإسراء: 31]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151].
فهنا يمكننا أن نتساءل، ما سر تقديم ضمير الآباء في سورة الأنعام على الأبناء، ومجي العكس في سورة الإسراء مع أن الموضوع في الظاهر واحد؟
الجواب: أن قتل الأولاد في الجاهلية كان جريمة كبرى، وكانت له أسباب، منها: خوف العار ومنها: خوف الفقر والحاجة، وهذا الأخير هو ما عالجته الآيتان، ولكن لما كان خوف الفقر منهم على صورتين: إحداهما تتعلق بفقر الآباء، والثانية تتعلق بفقر الأبناء، جاءت كل آية بأسلوب خاص، وبمجموع الآيتين يتكامل المعنى ويتم المقصود.
وبيان ذلك أننا نجد آية الأنعام قد ذكرت سبب القتل وهو ﴿مِنْ إِمْلاَقٍ﴾ أي: فقر وعوز وحاجة، وهذا يدل على أن الفقر والحاجة حاصلة للآباء، فكان المناسب ضمان رزقهم أولاً ثم ضمان رزق أبنائهم لذا قال سبحانه: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾، وأما آية الإسراء فذُكر فيها أن علة القتل هي ﴿خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ﴾ وهذا يدل على أن الفقر غير حاصل للآباء، لكنهم يخافونه على الأبناء، فكان المناسب تقديم ما يضمن رزق الأبناء الذي يُخاف عليهم الفقر، فقال سبحانه: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
وتأمل معي هذا الترتيب في آية آل عمران: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]، والترتيب في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 12]، وانظر كيف قُدم هنا ما أُخر هناك، فما سر ذلك؟
الجواب: لا عجب في التغاير لأن حديث آية آل عمران كان عن أحوال ذكر العبد المؤمن ربه، فهؤلاء المؤمنون يذكرون الله وهم قيام وتلك أشرف الأحوال فإن لم يستطيعوا فقعوداً، فإن لم يستطيعوا فعلى جنوبهم، فهم لا يفترون بحال، وقيل بل المراد بالذكر الصلاة، وهذه أحوالها، فالمطلوب أن يصلي الإنسان قائماً فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنبه، وقيل بل المراد أن القيام هو أوسع الأوقات للذكر؛ لأن الإنسان فيه يكون أقل انشغالاً، ثم يليه القعود لأنه لا يقعد إلا لحاجة أو عمل أو من تعب أو مرض، والذكر هنا أقل، وأما على جنبه فالمراد النوم وحينها إما أن يكون مريضاً أو بحاجة إلى راحة وتلك أقل الأوقات للذكر.
وأما آية يونس فالحديث فيها عن دعاء المضطر وابتدئ معه بالحالة الشاقة أو المشعرة بالاضطرار وهي (الجنب)، ثم الثانية وهي (قاعداً) الثالثة وهي: (قائماً)، وهذا سر اختلاف نظم الآيتين.
وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: 49]، ولنا أن نتساءل هنا عن سر تقديم الصغيرة على الكبيرة؟
لعل جواب ذلك أن الكفار يوم يعاينون دقة الحساب - وهم الذين لم يؤمنوا من قبل بذلك وكانوا يحسبون أنه لا إحصاء ولا حساب- يبهتون مما يرون من دقة الحساب والإحصاء، فقدموا الصغيرة، إشعاراً منهم باستعظام هذا الأمر، لأن الصغيرة عادة هي ما يُسهى عنه، فإذا كان هذا الكتاب إذا كان لا يغادر الصغيرة بل يضبطها ويسجلها فهو في شأن الكبيرة أشد وأقوى وأضبط.
ومما جاء فيه التقديم حادثة نومه صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، فجاءت فوجدته قد عرق فأخذت تنشف عرقه وتعصره في قوارير ففزع منها وقال: "ما تصنعين يا أم سليم"، قالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا، فقال: "أصبت" [رواه مسلم].
فالملحوظ هنا تقديم السؤال (ما تصنعين)؛ لأنه هو الحدث المهم، والأمر المستغرب هنا، قدمه على النداء مع أن ما يقتضيه الأسلوب العادي هو تقديم النداء لغرض التنبيه.

______
تدريبات:
1. قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ* قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون : 81 ، 82].
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [النمل: 67، 68].
- ما سر تأخير اسم الإشارة ﴿هذا﴾ في آية (المؤمنون) وتقديمه في آية (النمل)؟(3)
- لماذا قدم ﴿تراباً﴾ على ﴿عظاماً﴾ في الموضعين؟
2. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: 45].
- ما سر هذا الترتيب؟
3. قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج : 27].
- لماذا قدم ﴿رجالاً﴾، أي: الذين يمشون على أقدامهم، على ﴿كل ضامر﴾ أي: الذين يحجون راكبين؟

____________
(1) سر الفصاحة - (1 / 93).
(2) الإيضاح في علوم البلاغة - (1 / 211).
(3) لدراسة المتشابه اللفظي في القرآن كهاتين الآيتين يرجع لكتاب: ملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي.

تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 1039



خدمات المحتوى


تقييم
6.50/10 (4 صوت)

Powered by Dimofinf cms Version 3.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Inc.

Copyright © 1446 alatwi.net - All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة لموقع الدكتور عويض العطوي - يُسمح بالنشر مع ذكر المصدر.

الرئيسية |الصور |المقالات |الأخبار |الفيديو |الصوتيات |راسلنا | للأعلى

لتصفح أفضل: استخدم موزيلا فايرفوكس

 لتصفح أفضل: استخدم موزيلا فايرفوكس