لا بدّ قبل الدخول في دراسة البلاغة من معرفة قواعد مهمة يبنى عليها الكلام، وذلك من خلال دراسة مصطلحي: الفصاحة والبلاغة.
الفصاحة: تعني الوضوح والصفاء والظهور، يقال: فصح اللبن إذا زالت عنه رغوته، وعلى هذا فالفصاحة هي: ظهور الشيء ووضوحه وخلوه من الشوائب، وهذا الذي لابد أن يتحقق في اللفظ حتى يكون فصيحاً.
أما البلاغة، فهي: الوصول والانتهاء.
والفرق بينهما أن الفصاحة تطلق على كلٍّ من الكلام والكلمة المفردة، أما البلاغة فلا تطلق إلا على الكلام، ولا توصف بها الكلمة المفردة، فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ويقال: كلام بليغ ولا يقال عن كلمة مفردة: هذه كلمة بليغة، وإنما يقال ذلك إذا أريد بالكلمة الكلام.
وهنا سؤال: ما علاقة المعنى اللغوي في الفصاحة الذي هو (البيان والظهور) بمدلولها الاصطلاحي الذي يعني خلو الكلمة أو الكلام من عيوب الفصاحة؟
ملخص كلام ابن الأثير صاحب المثل السائر في هذا، أن الفصيح هو الظاهر البيّن، وأن اللفظ إنما ظهر وبان لكثرة استعماله بين البلغاء، وإنما كثر استعماله بينهم لحسنه وجماله وهم لا يختارون إلا الأجود، وإدراك الحسن غالباً ما يكون بالسمع: فالسمع يستلذ صوت البلبل وينفر من صوت الغراب، وفرق بين صهيل الفرس ونهيق الحمار، وتأمل أيضا كلمات: المزنة والديمة كيف يستلذها السمع، لكنّه ينفر من كلمة (البعاق)، مع أن الكلمات الثلاث تدل على معنى متقارب وهو المطر، وبهذا نعلم أن أكثر العيوب مردّها إلي مجافاة الكلمة للسمع والذوق، تأمل ألا يفرق الذوق والسمع بين هذه الألفاظ وهي مترادفة:
الغصن: والعسلوج
الأسد: والفدوكس
السيف: والخنشليل
وبهذا يظهر أن الفصاحة تعتني باللفظ ولذاذته في السمع، وقبوله من قبل الذوق، وهذا هو الأصل وإن كانت بعض العيوب تعود إلى المعنى كما هو حال عيوب الكلام، وهناك يأتي دور البلاغة، وبهذا يتبين من هذا التسلسل الذي أشار إليه ابن الأثير كيف أنّ الكلمة الفصيحة هي الكلمة الظاهرة المستعملة المقبولة في الذوق.
• العيوب المخلة بفصاحة الكلمة:
هناك عيوب نص عليها البلغاء إذا وجدت في كلمة أخرجتها عن مجال الفصاحة فأصبحت منبوذة غير مقبولة ومن ذلك:
1- تنافر الحروف
وذلك إذا اشتملت الكلمة على حروف غير متناسقة وعسيرة في النطق، وثقيلة على اللسان فهي حينئذ تكون غير فصيحة، وقد يكون سبب هذا أحياناً تقارب المخارج (س - ش -ج)، (ح -خ - ع - هـ)، مثل قول الأعرابي لما سُئل عن ناقته، قال: تركتها ترعى (الهعخع)، فهذه كلمة يصعب نطقها، وحروفها متداخلة وغير متناسقة، ومثل قول امرئ القيس:
غدائره مستشزرات إلى العلا *** تظل العقاص في مثنى ومرسل
فهو هنا يصف شَعْراً، فاستعمل كلمة (مستشزرات) أي: مرتفعات وهي ثقيلة، بسبب تقارب الحروف وعدم إلف بعضها بعض، فأصبحت الكلمة ثقيلة عند النطق بها(1)، ومن هذا القبيل كلمة: (سجسج) وهي الأرض المتوسطة بين اللين والصلابة.
والمرجع في قبول ذلك أو ردّه هو الذوق، وكثرة الاستعمال، فكلمة (شجر) متقاربة المخارج، ومع هذا هي فصيحة ولطيفة ومثلها: (شجى).
2- مخالفة القياس اللغوي (قواعد الصرف)
وذلك أن تكون الكلمة خارجة عن ما عرف عن العرب من قواعد مطردة، وهي قواعد الصرف وبنية الكلمة كقول الشاعر:
الحمد لله العلي الأجلل *** الواهب الفضل الكريم المجزل
فقوله: (الأجلل) فيه خروج عن قواعد العرب، لأن الأصل في المتماثلين في مثل هذه الصورة الإدغام، فيقال الأجل ومثله قولهم: موددة، والأصح مودة.
3- الغرابة.
وذلك أن تكون الكلمة وحشية غريبة غير مألوفة ولا معروفة لا يفهم معناها إلا بالبحث في بطون الكتب، ومن هذا القبيل ما يذكر أن عيسى بن عمر عندما سقط عن حماره وتجمع الناس عليه غضب وقال لهم: ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكم على ذي جنة؛ افرنقعوا عني، ومثل ذلك هذه الكلمات: العلطبيس، والدردبيس، والفدوكس، والعسلوج.
4- الكراهة في السمع.
وذلك بأن تكون الكلمة ممجوجة في الأسماع تتبرأ منها الأذن لقبحها، وذلك ككلمة (الجِرِشَّى) أي:النفس في قول المتنبي مادحاً:
مبارك الاسم أغر اللقب*** كريم الجرشى شريف النسب
ولو قال: كريم النفس؛ لكان ألطف وأجمل.
وكذلك كلمة (جَفَخَت) في قول المتنبي أيضاً:
جَفَخَتْ وَهُمْ لاَ يَجْفَخُونَ بِهَا بِهِمْ*** شِيَمٌ عَلَى الْحَسَبِ الأَغَرِّ دَلاَئِلُ
فنجد كيف كانت هذه الكلمة (جفخت) و(يجفخون) نابية بين كلمات البيت اللطيفة.
• العيوب المخلة بفصاحة الكلام:
هناك عيوب تتعلق بالكلام المركب لا باللفظة الواحدة ومن ذلك:
1- تنافر الكلمات
وذلك بأن يكون الكلام جامعاً لكلمات لا توافق بينها، فيحصل عند النطق بها متتابعة ثقل في اللسان، ومن هذا قول الجاحظ:
وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر *** وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ
وكذلك قول المتنبي:
فقلقلتُ بالهمّ الَّذي قلقلَ الحشا *** قلاقلَ عيسٍ كلُّهنّ قلاقلُ
2- ضعف التأليف (مخالفة قواعد النحو)
وذلك بأن يكون الكلام مخالفاً للمشهور من قواعد النحو، ومن ذلك أن يعود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، وهذا ممنوع عند الجمهور النحويين كقولك: أكرم ضيفُه محمداً، حيث عاد الضمير على ما بعده، وهو متأخر لفظاً؛ لأن كلمة (محمداً) جاءت بعد الضمير في (ضيفه)، ومتأخر رتبة لأن المفعول متأخر في رتبته عن الفاعل، ومن هذا قول الشاعر:
لو أن مجداً أخلد الدهر واحداً *** من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مطعماً
فالضمير في (مجده) يعود على (مطعماً) وهو متأخر لفظا ورتبة لأنه مفعول به.
ومن هذا القبيل كذلك جعل الضمير متصلاً بعد (إلا) نحو (إلاك) والصحيح (إلا إياك)، ومن هذا قول الشاعر:
ليس إلاك يا عليّ همام *** سيفه دون عرضه مسلول
3- التعقيد اللفظي
وهو أن يختل معنى الكلام باختلال مواقع الكلمات، فلا يعرف المعنى المراد وهذا مثل ما جاء في قول الفرزدق يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان حين قال:
وما مثله في الناس إلا مملكاً *** أبو أمه حي أبوه يقاربه
وأقرب من هذا لو قال: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه، ومع هذا يبقى المعنى كاللغز، بسبب مواقع الكلمات، ومراجع الضمائر.
وبيان ذلك كالآتي: وما مثله: أي الممدوح وهو (إبراهيم)، مملكاً: يعني (هشام) الخليفة، أبو أمه: أي أبو أم هشام، أبوه: أبو الممدوح (إبراهيم).
أي أبو أم هشام (أي جد هشام) هو أبو الممدوح أي أبو إبراهيم وهو أبو أم هشام، فإبراهيم أخ لأم هشام وأخو الأم خال فهو خال هشام بن عبد الملك.
• فنون البلاغة:
استقرت فنون البلاغة على يد السكاكي في كتابه المفتاح على ثلاثة هي:
(1) المعاني (2) البيان (3) البديع، وبما أنّ الكلام بناء، فهو يشبه البناية في مراحلها الثلاثة: التخطيط، ونوعية البناء، والتزيين.
أولاً: المعاني (التخطيط)
وهو فن يعرف به كيفية صياغة الكلام على وفق مقتضى الحال، أو ترتيب الكلمات في النطق وفق ترتيبها في النفس، والتخطيط للكلام يتم في أجزاء قليلة من الثانية، حسب الظروف والمواقف، فتجد الإنسان يقدِّم أو يؤخِّر، أو يحذف وهكذا.
ثانياً: البيان (نوع البناء)
وهو فن التصوير أي معرفة كيفية الإيضاح عن المراد بطرق مختلفة: مثل التشبيه والمجاز بنوعيه والكناية.
ثالثاً: البديع (التزيين)
وهو الفن الذي يُعرف به أوجه تحسين الكلام من جهة اللفظ أو المعنى فهو إذاً فن التزيين والتجميل، ويمكننا تقريب مدلول هذه العلوم بهذا المثال:
فنون البلاغة تشبه المبنى، ولا عجب فهي مبنى الكلام كما قلنا من قبل، ومعلوم أن المبنى يبدأ بالمخطط الذي يوضح فيه مواقع الغرف ومسمياتها وفي الغالب يخضع لكثير من التغيير قبل الشروع في البناء، وذلك بالتقديم أو التأخير أو الحذف أو الإضافة، وهكذا حتى يستقر الرأي على ما ترتاح له نفس صاحب المبنى، وهذا تماماً ما يمثل علم المعاني، فالمتكلم يتصرف في كلامه ويختار ما يتناسب مع غرضه، فقد يحذف وقد يضيف وقد يكرر، وقد ينوّع في الكلمات ويستغني عن بعضها وهكذا، حتى تتواءم الكلمات والتراكيب مع ما في نفسه أو مع ما يقتضيه المقام.
وبعد استقرار المبنى، واستقرار مخطط الكلام يأتي دور نوعية البناء، فلصاحب المبنى الخيار بأن يبني بطرق مختلفة: بالطين، باللبن، بالإسمنت، بالحديد، بغير ذلك.
وكذلك المتكلم يمكن أن يعبر عما في نفسه بطرق مختلفة، وهذا هو ما يعلمنا إياه علم البيان، فلك أن تعبر عن معنى الكرم مثلا بالطرق الآتية: التشبيه، المجاز، الكناية.
وبعد ذلك يأتي وقت التزيين، وهذا ما يعنى به (البديع)، من جمال صوتي وتناسق وزني من خلال: السجع، والجناس، أو لطائف معنوية من خلال: الطباق والتورية، وهكذا، تماماً كما يصنع صاحب البناء بعدما ينتهي جسم البناء يعمد إلى تزيينه وطلائه بالألوان الزاهية، بما يتناسب مع تناسقه وموقعه، وكما أنّ الزينة الزائدة تكون شبباً للتشويه، فكذلك المبالغة والتكلّف في المحسنات البديعية مذموم في الكلام البديع البليغ.
وقد قيل بأن الأول فن يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين كلام.
وهكذا نلحظ كيف يعتني هذا الفن بالمعني والمبنى، أي: الشكل والمضمون، لهذا لا يمكن أن تتحقق البلاغة في لفظ منفرد، وبتراكيب لا رابط بينها، ولا بمعان لا تخدمها تراكيب معبرة، والقول البليغ مأمور به ليكون الكلام مؤثراً، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ [النساء: 63]، يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (8/54): "وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ [النساء: 63] هي علم المعاني والبيان، فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب، ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني، فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب، أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه، ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة، ومن الناس من يكون مبيناً لما في نفسه من المعاني، لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام".
فعلمنا بهذا أن المعنى الشريف يحتاج حلة شريفة نفيسة يظهر فيها، والنظم الجميل قد يحيل المعنى الساذج العادي إلى معنى لطيف وشريف، مثال ذلك ما ذكره الرافعي عن أكل الناس الحلوى في العيد، فهذه فكرة عادية معروفة، ولو تساءلنا عنها فقلنا: لماذا يتناول الناس الحلوى في العيد؟ لكان سؤالاً ساذجاً في نظر الكثيرين، لكن إجابته عن ذلك أحالت ذلك المعنى الساذج إلى معنى لطيف شريف، فقد قال: وإنما يتناول الناس الحلوى في العيد لتحلو الكلمات في أفواههم.
وما تزال هذه المصطلحات -في نظري- تحتاج إلى بيان وبحث لربطها بما تحتها من مباحث، ولهذا يوجد مَن يطالب بدراسة البلاغة بأسلوب آخر، من حيث تقسيم آخر أكثر استيعاباً، هو: المفردة، الجملة، الجمل.
وهو رأيٌ وجيه في نظري، يستحق النظر، وأجريت عليه بعض البحوث التي تؤكد صلاحيته؛ لأنه لا يلغي الجهود الماضية، بل هي منضوية تحته.
____________________________
(1) وهناك مَن يرى أنّ اختيار الشاعر لهذه الكلمة الصعبة المتنافرة في حروفها؛ كان لتصوير حقيقة ذلك الشَّعْر، من التداخل والتطاير والتنافر.