رابعاً : التشبيه التمثيلي
وهو ما كان وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدد ، وهو تشبيه صورة بصورة مثل قول الله تعالى: ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ً) فقد شبه سبحانه صورة اليهود والتوراة بين أيديهم وفيها حكم الله والهدى والنور وهم معرضون عنها، بهيئة الحمير توضع الكتب على ظهورها ولا تنتفع بها ولا ينالها منها إلا التعب والمشقة والجامع بين الحالين وجود المشقة والعنت وانتفاء الفائدة مع قربها وإمكانها.
ومن هذا قول الشاعر :
إن أنسى لا أنسى خبازا مررت به *** يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
مابين رؤيتـها في كـفة كـرة *** وبين رؤيتـها قـوراء كالقمر
إلا بمقــدار ما تنـداح دائرة *** في لجة الماء يلقى فيها الحجـر
فشبه سرعة الخباز في تحويل العجين من حالة التكوير إلى حالة التدوير ، بسرعة الدائرة في الماء عندما يلقى فيه الحجر ، والجامع بينهما ( وجه الشبه ) الاتساع من الصغر إلى الكبر بصورة تدريجية .
ومن هذا قول المتنبي عن الأسد:
يطأ الثرى مترفقا من تيهه *** فكأنه آس يجس عليلا
شبه الأسد وهو يمس الأرض مسا خفيفا بسبب كبريائه ، بطبيب يعاين مريضاَ فهو يضع يده عليه برفق في مواضع عدة من جسده .
خامساً : التشبيه القريب والغريب
التشبيه القريب : وهو المعروف المتداول الذي يدرك بسرعة وهو ما يُنتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير حاجة إلى تأمل كبير ، وهو كثير متداول. مثل: محمد كالأسد .
التشبيه الغريب : وهو ما لا يُنتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد تأمل ونظر كقول الشاعر :
والشمس كالمرآة في كف الأشل *** لما بدت من خدرها فوق الجبل
يشبه الشاعر الشمس عند بزوغها في الصبح وهي تتوهج مستديرة بالمرآة في كف المرتعش وهي صورة نادرة كما نرى .
وقول الآخر:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها *** وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
يشبه الشاعر وقوفه على أطلال من يحب، ومكوثه هناك بوقوف رجل بخيل سقط خاتمه الغالي عنده في التراب فهو لا يبرح مكانه حتى يجده .
سادسا: التشبيه الضمني.
ما يلمح فيه التشبيه لمحاً وليس له صورة واضحة في الكلام ودائما يكون التشبيه فيه لأجل ادعاء يسبق التشبيه، كقول الشاعر :
وإذا أراد الله نشـــر فضيلة طويت *** أتاح لها لسان حــسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود
شبه الشاعرُ الحاسدَ بالنار، وشبه طيب الذكر بالعود، وذلك للتدليل على الحكم الغريب الذي أصدره الشاعر في البيت الأول ، وهو أن الحسود هو الذي ينشر فضائل محسودة ، ومن هذا القبيل قول الآخر :
دان إلي أيدي العفاة وشاسـع *** عن كل ند في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه *** للعصبـة السارين جد قريب
وقول الآخر :
اصبر على مضض الحسو *** ــد فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضــها *** إن لم تجد ما تأكله
وقول الآخر :
قد يشيب الفتى وليس عجيبا *** أن يُرى النَّوْر في القضيب الرطيب
وقول الآخر :
فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال
وقول الآخر :
ومن يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجــرح بميت إيلام
وقول الآخر :
وإن كنت تبغ العيش فابغ توسطا *** فعند التناهي يقصــر المتطاول
توقى البدور النقـص وهي أهلة *** ويدركها النقصان وهي كوامل
لماذا يؤثر التشبيه الضمني في النفس ؟
لهذ النوع من التشبيه ميزة معينة ، وتأثير خاص في النفس ، وتجد فيه جمالاً وطرافة فما سر ذلك؟ إن ذلك يعود إلى أنه يؤثر فيك بصور متعددة على النحو التالي:
أولاً : ينقلك من المعقول إلى المحسوس، ومعلوم أن المعاينة ليست كالخبر .
ثانيا : يقيم الحجة ويذهب العجب ويدفع الغرابة .
ثالثا : فيه طرافة لأنه يجمع المتباعدات والمتباينات أحيانا .
رابعاً : يحملك على إعمال الفكر وكد الذهن من أجل تفسير المعنى الغريب، فإذا جاء التشبيه استقر المعنى في النفس ووعاه العقل ، لأنه جاء بعد تشوف وتشوق .
صور من التشبيهات في القرآن
للتشبيه القرآني ميزات وخصائص أهمها :
أولاً : عدم تقيده ببيئة أو زمن معين، فتجده يتعلق بالإنسان أو بظاهرة من ظواهر الكون بحيث يكون مقبولا ومفهوما، في كل زمان ومكان .
ثانياً : الاتساق التام بين الغرض والتشبيه.
ثالثاً : الدقة في اختيار اللفظ في كل أركان التشبيه .
تطبيقات قرآنية للتشبيه:
سنعرض الآن صورا من التشبيهات القرآنية، ونحاول بيان ما فيها من أسرار.
قال تعالى) : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) .
شبه الله سبحانه وتعالى القمر في حالة تحوله وتناقصه شيئا فشيئا بعرجون النخل القديم المنحني، والعرجون هو العود الذي يحمل التمر، ولا شك أنها صورة قامت بالغرض كاملا من حيث الشكل واللون، لأن ذلك العود إذا يبس تقوس واصفر وتضاءل فكان كالقمر في آخر منازله وأولها (المحاق والهلال ( .
وقال تعالى : ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام )
شبه سبحانه السفن الضخمة القائمة في وسط البحر بالجبال العظيمة ، كما يدل عليه التعبير بالأعلام دون الجبال، وفي اختيار نوع الكلمة في المشبه به وهو الأعلام ، دون الجبال سر يتعلق بمدلول الكلمة ذاتها ، ذلك أن للأعلام دلالتين الجلال والجمال ، وذلك أن العَلَم في اللغة يدل على الجبل و تأخذ منه الضخامة والرسو ، كما يدل على الراية وهي رمز جمال ورفعة، فلما أريد الجمع بين الجمال والجلال معا، ُشبهت السفن بالأعلام ، ولو قيل : كالجبال لدل على الجلال دون الجمال، وهذا لا يتناسب مع السفن في كل أحوالها .
ولهذا لما أريد مقصد الجلال فقط قال سبحانه : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال )، فقد جاء التشبيه للموج بالجبال، لأنه ليس المقصود هنا إبراز جانب الجمال بل المقصود إظهار الضخامة المخيفة ، وهذا كتشبيه الموج بالظلل في قوله تعالى : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ، ولكن مالفرق بين التشبيهين ؟
جواب ذلك أن الآية الأولى التي كان فيها المشبه به ( الجبال ) كان المراد منها بيان الشكل والهيئة وبيان طغيان الماء وعلوه وارتفاعه؛ لأنه ماء نزل من السماء وماء خرج من الأرض فالتقى الماء على أمر قد قدر .
أما الآية الثانية فهي مصورة للعذاب ولا يكفي في ذلك مجرد بيان الحجم بل لابد من ذكر ما يرهب ويخيف ولا شك أن تصوير الموج على أنه ظلة يعلو الرؤوس أهلع وأخوف من مجرد التشبيه بالجبل القائم في مكانه، لهذا لما أريد ذكر الجبل في جانب العذاب ذُكرت له حاله خاصة كما في قوله تعالى : ( وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ) فنرى هنا في هذه الآية أن الجبل شبه بـ(ظُلة) وهذا يعني أن الظلة أشد في التخويف من مجرد ذكر الجبل ،وذكرت معه كلمة ( فوقهم ) لأنه في العادة لا يكون كذلك ، بل يكون بجانبهم .
وقال تعالى : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) .
فهذا تشبيه لآكل الربا بالمجنون الذي يتخبط وغاية التشبيه نقل صورة آكل الربا البشعة حتى تنفر النفوس من هذه الجريمة الشنعاء ، لأن النفوس جبلت على كره منظر المصروع ولا يكاد أحد يخالف في بشاعة منظره ، فلما كان المرابي في الدنيا يسلب أموال الناس ويضيق عليهم كان الجزاء من جنس العمل فذكر الله لنا صورته يوم القيامة أنه يقوم من قبره مجنونا يتخبط ، قال بعضهم يقوم ويسقط كأنما يضرب من أمامه ومن خلفه والعياذ بالله .
وقال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) .
شبه الله سبحانه الزوجة التي تركها زوجها من غير حفظ ورعاية مع أنها في عصمته بالشيء المعلق، فلا هو على الأرض ولا هو في السماء، ولا شك أن هذه الصورة البليغة توجد في قلوب الأزواج شفقة ورحمة؛ لأن الإنسان مجبول على رحمة من كان على هذه الصورة حتى ولو كان حيوانا فكيف إن كان إنسانا ً.
تطبيقات حديثية للتشبيه:
قال صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثلكم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقعن فيها فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ) .
هنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه برجل على النار يحاول دفع الفراش عن الوقوع فيها لكنها تعاند وتقتحم فتهلك وتحترق ، شبه ذلك بحاله مع أمته صلى الله عليه وسلم فهو يدعوهم إلى النجاة ويمسكهم عن النار وبعضهم يرفض هديه ويختار النار .
ومن التشبيهات النبوية قوله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلى قصعتها ، قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ، قال : لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل . . . ) فهنا تشبيهان تمثيليان أولهما ، تداعي الأمم على هذه الأمة كتداعي الأكلة على القصعة ، إنها صورة عجيبة واقعية معبرة ، يحسها كل إنسان لأنها من البيئة، ومن هنا يأتي تأثيرها، ويعظم مدلولها.
المشبه: الأمم وهي تتداعى أي يدعو بعضها بعضا إلى خيرات هذه الأمة ، والمشبه به تداعي الأكلة أصحاب النهم والشره إلى طعام لذيذ مغر كما يدل عليه التعبير بالقصعة المشعرة بالسعة والامتلاء ، والجامع هنا هو الاهتمام والتنادي على أمر مهم، يا لها من صورة ما أعظم مدلولها على ما نحن فيه اليوم ، إنها صورة من البيان النبوي الرائع .
والتشبيه الثاني غثاء كغثاء السيل ، صورة أخرى رائعة ، فالمشبه هو الأمة الكثيرة بلا أثر، والمشبه به غثاء السيل ، واختيار الغثاء له مدلوله ، إذ هو بمجوعه ومنظره كثير ، لكنه بمخبره وجوهره قليل بل ضعيف ، وهكذا الأمة في حالة الضعف ملايين البشر دون فائدة ، ثم إن غثاء السيل يحمله السيل دون هدى ، لا اختيار له ، فهو يقع من حفرة في أخرى ، إلى أن يأتي هاوية كبرى فينتهي فيها ، وكذلك الأمة الضعيفة ، غيرها يسير أمرها ، حتى يوقعها في كارثة لا تخرج منها ، كذلك غثاء السيل خليط من أشياء كثيرة لا ترابط بينها إلا الضياع وعدم الارتباط بشيء، ففي الغثاء أعواد وحشائش وقطع وخِرق ، وبقاياً أخشاب وهكذا، والأمة إنما كانت هزيلة يوم أصبحت خليطا لا رابط بين أجزائه .
إنها صورة أخرى من البيان النبوي الرائع ، لا بد أن نفهمها ونعتبر منها .
أغراض التشبيه
للتشبيه أغراض كثيرة تغير بتغير المواقف والحاجات، نذكر بعضها هنا للفائدة :
أولاً : بيان إمكان المشبه، مثل قول الشاعر:
قد يشيب الفتى وليس عجيبا *** أن يرى النور في القضيب الطيب
ثانياً : تقدير حال المشبه، مثل قوله تعالى: .
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا )
ثالثاً : بيان مقدار المشبه، مثل قول الشاعر:
ما لعمر إلا ليلة *** كأن الصبح لها جبين
رابعاً : تزيين المشبه، كقوله تعالى عن الحور العين: (كأنهن الياقوت والمرجان )، أو تقبيحه كقول الشاعر:
وإذا أشار محدثا فكأنه *** قرد يقهقه أو عجوز تلطم