فإذا استحكمت الأزمات ، وانعقدت حبالها ، وترادفت الضوائق وطال ليلها ، برز خلق العظماء ، الأبطال الأشداء ( الصبر ) ليضيء الدرب ويزيل حلكة الليل ، ولا عجب فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( والصبر ضياء )) رواه مسلم.
معاشر الفضلاء كم نحن بحاجة إلى تمثل هذا الخلق في هذه الحياة المتقلبة، كم نحن بحاجة إلى ذلك النور الهادي العاصم بإذن الله من الزيغ والزلل ، يوم تتوالى الأزمات ، وتتكاثر العقبات .
الابتلاء لابد أن يكون ، فما عدة المواجهة ، إنها الصبر ، قال تعالى : } ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم { [ محمد : 3]، إن امتحان الحياة ليس كلاماً يكتب ، ولا أقوالاً توجه ، إن الحياة كلها ابتلاء وعقبات ، إنها دار التكليف والعمل، فما أعظم عدة الصبر فيها ؛ لذا تردد ذكر الصبر في القرآن فيما يربو على مائة موضع، تأكيدا على أهميته وتقديراً لمنزلته ومكانته ، لقد أمر الله به، وجعله من أظهر أخلاق الرسل الكرام صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فقال سبحانه: }فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل{ [الأحقاف: 35 ]، رفع الله مكانته حتى صار أهله مبشرين بكل خير، }وبشر الصابرين { [ البقرة : 155 ] ، جعله سبحانه من أسباب محبته، } والله يحب الصابرين { [ آل عمران : 146 ] ، جعله سبحانه طريق الفلاح } يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{ [ آل عمران :200 ] ، جعل التصبر من أعظم أسباب النصر } إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط { [ آل عمران: 120 ] ، كما أنه من أسباب السؤدد والإمامة } وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون { [ السجدة : 24 ] ، ومن أسباب معية الله } واصبروا إن الله مع الصابرين { [الأنفال:46]، هذه بعض فضائل الصبر في الدنيا ، وأنعم بها والله من فضائل ، نصر وقوة ، وفلاح ونجاح ، وسؤدد ومكانة ، وخيرات ومبشرات ، أما في يوم القيامة ، فأكرم بها من منازل إنها جنان النعيم } إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون { [ المؤمنون : 111 ]، } أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما { [ الفرقان : 75 ]، }وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا { [ الإنسان :12 ] ، ذلك هو الصبر ، الذي يواجه به المؤمن شدائد الزمن ، والابتلاءات والمحن ، يصمد به بإذن الله أمام تقلبات الدهر ، وتكاليف الحياة .
يا عبد الله ، المؤمن لا بد أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت ، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت ، بقلب صامد لا تعلق به ريبة ، ولا يتطرق إليه شك ، وبعقل لا تطيش به كربة ولا تسلبه توازنه محنة وفتنة .
المؤمن مهما ادلهمت به الخطوب ، وتوالت عليه الكروب ، يبقى قويا جلداً ، صابراً محتسباً ؛ لأنه في معية العظيم الخالق } إن الله مع الصابرين { [ البقرة : 153 ]، يا أخا الإسلام قد ترى من تسلط الأعداء وذل الأتقياء، ما يسيل دمعتك، ويؤرق رقدتك، فحذار أن يتسلل إلى قلبك اليأس والملل، واحذر من فقدان الأمل، وعليك بصفة العظماء، وخلة الشرفاء، وأصحاب النظر البعيد، خلة الصبر والتجلد.
فاصبر يا مؤمن ، وابن في سبيل نصر الأمة ولو لبنة واحدة ، واخط ولو خطوة واحدة ، المهم ألا تتوقف ، واثبت على ما أنت عليه وستنل ما تريد ولو بعد حين :
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
يا مؤمن ، ستتعرض في هذه الحياة لألوان من المكاره في نفسك ومالك وولدك، فعليك بعدة الصبر فإنها الصخرة التي تتحطم عليها كل الصعوبات ، وتزول بها كل المعوقات بإذن الله .
يا أخي ، الصبر من عناصر الرجولة الناضجة ، وأثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمتاع الثقيل لا يستأجر لحمله أطفال ولا مرضى ، إنما ينتقى له ذوو الكواهل الصلبة ، والمناكب الشداد ، لذا كان أعظم الناس منزلة هم الأنبياء ، وهم كذلك أشد الناس بلاء واختباراً ، سئل صلى الله عليه وسلم : (( أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى المرء على قدر دينه )) صحيح سنن ابن ماجة ( الألباني ) (3249) .
لا تضجر يا مؤمن ، إذا قلب لك الدهر ظهر المجن ، وإذا نزلت بساحتك المحن، فاختلاف أنصبة الناس من الجهد والتبعة والهموم ، تعود كما رأيت إلى قدر طاقاتهم وعظم هممهم ومراداتهم، وتذكر أن خفة الحمل وفراغ اليد ، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقدر كبير ، لكن مراتب العلو ، وهموم الواجب ، ومرارة الكفاح ، واستدامة السعي ، وتحقيق الآمال ، ومواجهة الأهوال ، هي أخلاق الصامدين المكافحين ، البنائين الباذلين ليس غير.
إن الرجل القابع في داره لا يصيبه غبار الطريق ، والجندي الهارب قد لا يشوكه سلاح ، ولا يروعه خوف ، أما من خاض الحياة وسعى إلى هدفه ، فستناله الجراح ، ويدركه النصب ، ويصيبه الألم ، لكنه سينال مبتغاه ، ويصل إلى مناه ، إنه الصبر خير زاد لتحمل الآلام ، وتحقيق الآمال ، قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري : (( وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر )) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( وجدنا خير عيشنا الصبر )) .
يا مؤمن ، حياتك كلها ابتلاء وامتحان ، واختبار وفتنة ، ولن ينجو وينجح ، ويصل إلى مراده ويفلح ، إلا من صبر وتجلد .
تأمل في هذا الحديث العظيم الذي حدد سر الخيرية العامة في حياة المؤمن ، وجعل مدارها الشكر والصبر، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) .
إنه حديث عظيم شامل للحياة بمسارها ومضارها ، ولو تأملنا أحوالنا لوجدنا أننا بحاجة إلى هذا الخلق الجليل في كل أحوالنا ، وألوان معاشاتنا في مخالطتنا للناس ، ومعايشتنا لبعضنا ، فأنت يا مؤمن لا بد أن تجد من يؤذيك بتصرف أو كلمة ، ومن ينغص عليك بكذب أو بهتان ، وما أكثر ما تضيق صدور الخلق من بعضهم بعضا، وتأمل وأنت تستشعر ذلك ، قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح سنن ابن ماجة ( الألباني ) [3257] (( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )) ، وجاء في صحيح الجامع [ 3074] (( إن من الثلاثة الذين يحبهم الله، الرجل يكون له الجار يؤذيه جواره ، فيصبر على أذاه ، حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ... )) ، ولكن أين هذا من أوضاعنا ، وقلة تحملنا لأخطاء بعضنا؟ فإلى الله المشتكى .
يا مؤمن ، انظر إلى عظمة العظيم سبحانه ، وإلى رحمته كيف تتجلى في قوله صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : (( ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى ، إنهم يجعلون له نداً ، ويجعلون له ولدا ، وهو مع ذلك يرزقهم ، ويعافيهم ، ويعطيهم )) .
يا مؤمن قد تتعرض في خضم الحياة إلى من يؤذيك بكلام جارح ، يتهم فيه عرضك ، أو أمانتك أو دينك ، فهلا صبرت وتحملت وتجاوزت ، هذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يَقْسِم قَسْماً بين الناس فيقوم رجل ويقول : ((هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ))، يالها من كلمة ما أكبر جرمها ، وما أخطر أمرها ، فقال صلى الله عليه وسلم في حلم وتحمل وتربية وتوجيه : (( رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) رواه البخاري .
نحن يا عباد الله محتاجون إلى الصبر في تلقي أقدار الله المؤلمة، فقد يُبتلى بعضنا بمرض ، فيزداد ويقوى ، فيبحث الإنسان عن العلاج وقد يتأخر الشفاء، عندها تكثر الشكوى ، ويظهر الجزع بل قد يسلك بعضنا سبلاً ملتوية ، ويستعين بسحرة ومشعوذين ، فنقول لهؤلاء وأين الصبر؟ .
تأملوا يا عباد الله في هذه الحادثة واجعلوها مثالاً حيا ، ونبراساً هادياً، جاءت امرأة سوداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : يا رسول الله إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، فقال صلى الله عليه وسلم : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ، قالت : أصبر، قالت : فإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف فدعا لها )) رواه مسلم .
يا عبد الله ، ما أكثر عوارض الزمن فعليك بركن الله واعتصم بحبله، وإياك والاعتراض على أقدار الله ، سواء أصبت في مالك أم ولدك أم نفسك ، واعلم أن أهل الصحة والمال والعيال سيغبطون أهل البلاء يوم القيامة على ما أعطاهم الله من الخير والفضل ، جاء في صحيح الجامع بسند حسن [5474] قوله صلى الله عليه وسلم : (( ليود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء )) .
وتذكر يا مؤمن أنك لست وحدك الذي أصبت بهذا المصاب ، فغيرك قد أصيب ، هو طريق سار فيه أخيار وأفاضل .
اصبر لكل مصيــــبة وتجلــد واعلــم بأن المرء غير مخلـد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست فيه بأوحد
يا مؤمن ، نحن بحاجة إلى الصبر، في تحمل ظلم الظالمين،وقهر الطغاة المتكبرين ، كم من إنسان قتل قهراً ، ومات كمداً ،لا يستطيع الوصول إلى حقه، ولا الاقتصاص من ظالمه ، فيا من هذا شأنه ، عليك بالصبر يرفعك الله ويعليك ، وحقك لن يضيع ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً ))صحيح الجامع [3024].
نحن محتاجون للصبر في أرض الكفاح ، وساحات الوغى ، وتلك هي الشجاعة، قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا )) رواه البخاري ، وسأل علي رضي الله عنه عن الشجاعة فقال : (( صبر ساعة )) .
نحن محتاجون للصبر في طلب العلم ، ومن لا يصبر لا يتعلم ، ومن استعجل خسر ، هذا نبي الله موسى عليه السلام يقول لمعلمه الخضر (( ستجدني إن شاء الله صابرا )) ، إنها عدة العلم ، ومع ما أوتي موسى u من الصبر إلا أنه لو زاد صبره لنال قسطاً أعظم من العلم ، قال صلى الله عليه وسلم عنه : (( ولو صبر لرأى العجب )) رواه مسلم ، فالعلم لا تفتح كنوزه إلا للصابرين
اصبر على مر الجفا من معلم فإن عظيم النفع في نفراته
عباد الله، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد ،
فالصبر زاد مهم في التربية ، لأنها حمل ثقيل ، وعمل دؤوب، وطريق طويل ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( من كن له ثلاث بنات فصبر عليهن ، وأطعمهن وسقاهن وكساهن ، من جدته واتقى الله فيهن ، كن له حجاباً من النار يوم القيامة )) صحيح ابن ماجة ( الألباني) [2959] .
وتأمل يا عبد الله هذا التوجيه الإلهي : } وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى { [ طه :132 ] ، تأمل كيف قال( اصطبر) ولم يقل ( اصبر) ، لأن المسؤولية كبيرة ، تناسبها الكلمة المعبرة المصورة لثقلها ( اصطبر ) ، فهل انتبه المربون لذلك ، المربي يحتاج إلى التريث والصبر حين الغضب ، وحين التوجيه، وحين التعليم ، إنه محتاج إلى الصبر في التعامل مع أخطاء الأولاد والزوجة ، وما أجمل الصبر عندما يحجز الإنسان عن التسرع في الأحكام ، فلا يزل بكلمة أو قرار تتشتت به الأسرة ويتفرق به الجمع ، فتصبروا معاشر الآباء والأزواج ، أخروا القرارات الحاسمة عن لحظات الغضب ، فكروا وتمهلوا ولو لدقائق حتى لا يحصل المكروه ويقع المحذور ، وقد قال ( : (( ومن يتصبر يصبره الله )) رواه البخاري .
يا عبد الله، اعلم وفقك الله لكل خير ، أن الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي ، أعظم شأنا من الصبر على الأقدار المؤلمة ، لأن ذلك صبر اختياري، والقدر لا اختيار لك فيه ، فتجلد وتصبر أمام سحر النظر، ومغريات الأذن ، وتصبر أمام لذائذ الراحة ، وقدم ما يأمر به ربك ، ولو كان خلاف هواك ، فذلك من أعظم أنواع الصبر .
عباد الله ، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك الله } إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً{ [ الأحزاب:56] .