جديد الفيديو
المتواجدون الآن
| 06-02-1431 06:41 PM الخطبة الأولى:
أما بعد
فحديثنا هذه الساعة عن أمر استفحل شره, وعمَّ خطره, بلاؤه في ازدياد, ومضاره في نمو واطراد, في الغالب لا يسلم منه أحد, وإنْ توحد وانفرد, لأن أداته مع كل إنسان.
المطلوب فيه الاقتصاد هو ونحن نسرف, والوقوفُ عند الحد ومع ذلك نتجاوز, أكثر بلاء الناس في الدنيا والآخرة منه, ومع ذلك هم عنه لا يتوقفون, وفي مضمونه لا يتفكرون, ولعواقبه لا يحسبون، أعرفت -أيها الفاضل- ما هذا الداء الخطير؟ وما ذلك الشر المستطير؟
إنه ما استهان به الناس, وتفَكَّهَ به الجُلاّس, وتسامر به السُّمار, وقُطِّعت به الأسفار، إنه الذي أورد الناس المهالك, وأوقعهم في شراك الخطأ, هل أدركته أيها المؤمن؟!
إنه ذاك الذي اجتمع في أفواهنا, ولفظته ألسنتنا, إنه (الكلام), الذي هو أعظم أسباب الملام, وأحد أهم أسباب الخسران، لمن لم يحسن التعامل معه، والسيطرةَ عليه.
الكلمة، ما أعظمَ شأنها, وما أشد خطرها, إنها مع سهولة خروجها, عظيمةُ التأثير, شديدة التغيير, فكم من كلمة قذفها اللسان, وأخرجتها الشفتان؛ أحدثت الأعاجيب, كم من كلمة شرحت صدراً, وآنست فؤاداً, ووسعت على إنسان، كم من كلمة أضحكت وأفرحت, وأخرى أبكت وأحزنت, كم من كلمة أست جروحاً, وأخرى نكأت وأحدثت حروقاً.
تأمل -يا عبد الله- هذا الكلام العجيب الذي نهذي به ليلاً ونهاراً كم صنع من عجائب, وأحدث من غرائب, أفلا نظرت -أيها العاقل- إلى أساس البلاء بين الخلائق؟ أليس أكثره يعود إلى حصائد الألسنة؟ أليس جلّه يرجع إلى أثر الكلمة؟
الكلام أداته أصغر الأدوات في جسم الإنسان, وهي -في الظاهر- أطهرها وأصغرها, وهي في الحقيقة شرها وأخطرها، اللسان أداة الكلام, يؤازره الحلق والأسنان والشفتان, من تأمل فيه رآه آية من آيات الله، فسبحان من هذا خَلْقه, قال سبحانه عن هذا الإنسان: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾[البلد : 8 - 10], إنَّه تذكير للإنسان بهذه النعمة، ليستخدمها فيما ينفعه، فاللسان أداة يظهر بها البيان, وشاهد يخبر عن مكنون الجَنان, وحاكم يُفْصَل به القضاء, وناطق يُرد به الجواب, وشافع تُقضى به الحاجات، وواصف تُعرف به الأشياء, وواعظ يَنهى عن القبيح, وداعٍ إلى الفكر الصحيح, ومُعَزٍّ تَسْكُن به الأحزان, وملاطِف تَذْهب به الأضغان, وصوت تأنس به الأسماع, ومطبّب تُواسى به الآلام والأوجاع.
معاشر المؤمنين، واللسان-مع ذلك كله- صغير الجِرْم, عظيم الجُرْم , زلته قاتلة, وأضراره هائلة, فكم زلت به من قدم, وكم تهاوى بسببه من عرش وانهدم، فهو سيف بيد صاحبه إما أن يُعليه وإما أن يُرديه.
عباد الله، الكلام له مسؤوليته وخطورته, وله وزنه ومكانته, وكيف لا يكون كذلك وهو عيار كلِّ صناعة, وزمام كل عبارة, به يُعرف وزن الإنسان, وما يؤول إليه من نجاة أو خسران؟ إنه سُلّم يُرتقى به إلى مدارك المعرفة, وأداة تُعرف بها الحجة والمحجة, وآلة لكشف الخفي الملتبس, وإظهارِ الغامض المشتبه، به دعا الأنبياء أقوامهم, وبيّن المصلحون مبادئهم، لذا طلب موسى عليه السلام من ربه أن يطلق له لسانه فقال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: 27، 28]، ويكفي البيان فخراً، وفصاحة اللسان سمواً، أَنْ كانت المؤهلَ الأظهر لاستعانة موسى بأخيه هارون عليهما السلام، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾(2).
ما أرسل الله من رسول إلا بلسان قومه ليكلمهم, ولينقل إليهم حجة الله عليهم بكلامه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾(3)، وقال بلسان قومه دون لغة قومه، إما لخصوصية كل قوم بلكنة أو لهجة، أو لكون الكلام الذي هو اللغة هو أشرف ما يصدر عن هذا اللسان.
عباد الله , اللسان عضو جليل المكانة, رفيع المنزلة, وهو في الوقت ذاته بالغ الخطورة, شديد التأثير، لذا اعتنى بشأنه هذا الدين فحدَّد مجالاتِه, وبيّن خطورتَه, وأوقفنا على كيفية التعامل معه.
عباد الله، إننا يجب أن نوقن أن هذا الكلام والقدرةَ على البيان نعمة من الله, كما قال جلت قدرته: ﴿الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾(4).
تأمل -رعاك الله- كيف جعل سبحانه تعليم الإنسان البيان من أعظم مننه عليه بعد خَلْقه, فهل عرفنا قدر هذه النعمة , فسخرناها فيما ينبغي أن تسخر له , كما قال ربنا سبحانه : ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾(5), وإنّ أكثرَنا لو تأمل هذه الثلاثة التي جعل الله خَيْرية الكلام فيها، وهي: الأمرُ بالصدقة, والمعروفِ, والإصلاحِ، لوجد أنه ربما يمر على الإنسان الشهرُ كاملاً لم يفعل شيئاً منها, بل جلّ كلامه هدَر، أو زلل وخطر.
معاشر الكرام، إنَّ بعضنا لا يكف عن الكلام إلا بسبب نوم أو أكل , وبفضل هذه الاتصالات أصبح الناس يتكلمون حتى في سياراتهم، ولحظات شغلهم، إنَّ هذا الفضاء ليعج بملايين الكلمات التي تقذفها الأفواه، أكثرها لم يمر على مصفاة العقل, ولم يُحكَّم فيه أمر الدين.
يا أهل الإيمان, يا أصحاب العقول, إننا لو أدركنا ما يجره علينا كلامنا من ويلات في الدنيا والآخرة، لربما توقفنا عن الكلام بالكلية, وهذا ما حصل عند ذوي القلوب الحية الذين صرحوا بهذا تقديراً منهم لخطورة الأمر, يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "والذي لا إله غيره، ما على الأرض شيء أحوجَ إلى طول سجن من لسان".
أَقْلِل كلامك واستعذ من شرّه*** إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه*** حتى يكون كأنّه مسجون
لذا قيل إن الله عز وجل جعل للإنسان لساناً واحداً، وأذنين اثنتين حتى يكون كلامه أقل مما يسمعه.
اسمع مخاطبة الجليس ولا تكن*** عجلاً بنطقك قبلما تتفهم
لم تعط مع أذنيك نقطاً واحداً*** إلا لتسمع ضعف ما تتكلم
عباد الله، لقد عَمَّ خطر اللسان, وإطلاقُ العنان للكلام، غالبَ حياة الإنسان , حتى أثر على قلبه, وجوارحه, ودينه, وحسناته, وعلاقاته, لذا حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من شره, وخوفنا من ضرره يوم سأله سُفْيَانَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حدثني بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ: قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْبَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟، قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ «هَذَا»"(6). [رواه الترمذي، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهم وهو حديث حسن صحيح].
فهل وجِلت قلوبنا من خطر هذا اللسان؟ وهل قَدَرنا ذلك حق التقدير، أم أننا متشاغلون عن ذلك, متناسون له؟
تذكر -يا عبد الله- لسانُك هذا إما أن تخطِمه وإما أن يخطمك، إما أن تقوده وإما أن يقودك.
اللهم ألهمنا الصواب، وأجزل لنا الخير والثواب، واجعل كلامنا في مرضاتك، وما يقرّب إلى جناتك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله أقول ما سمعتم واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
_______________
الخطبة الثانية:
أما بعد.
فتعال -أيها الفاضل- لنقف على شيء من تلك الأضرار، ونستكشف بعضاً من ذلك الخطر وخصوصاً على القلب.
هل أدركت -أيها المبارك- كم يتأثر هذا القلبُ باللسان, كم تلحقه من حسره, وكم تدركه من ندامة, وكم يعصره من أسى، بسبب كلمات خرجت, ما حسب لها صاحبها حساباً، ولا أقام لها وزْناً، بل ربما أراد بها شراً، إنها كلمات قذفها اللسان, ومرض بسببها الجَنان, لو استعرض الإنسان حياته لوجد جلّ ما ندم عليه عائد إلى اللسان، أو له أثر واضح فيه، ذُكر أنَّ عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنهما ارتقى الصفا يوماً، فأخذ بلسانه وقال: يا لسان قل خيراً تغنم , واسكت عن شر تسلم , من قبل أن تندم، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا بني آدم من لسانه"(7) [رواه الطبراني، وحسنه العراقي].
وهذه الآثار وتلك الذنوب التي يتسبب فيها اللسان، أليست تميت القلب, وتتسبب له في الطبع والختم؟ أليست تجلب له الران؟ فكم مات من قلب بسبب تلك الذنوب التي تجرها الألسنة, وكم زاغت من أفئدة بسبب كثرة الهذيان والسير بلا هدى في أودية الكلام.
يا مؤمن، إنَّ اللسان السائب حبل مرخي في يد الشيطان يُصرِّف صاحبه كيف يشاء, حتى يجعل فمه مدخلاً لنفايات تلوث قلبه وتضعف قوته, وتغطيه بغلاف الغفلة، وتميله نحو الشهوات والشبهات, عندها لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.
يا لله ما أشد خطر اللسان على القلب, ذلك أنّّ الذنوب يعود إلى اللسان, لذا ربط صلى الله عليه وسلم استقامة القلب باستقامة اللسان فقال : "لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"(8) [رواه الإمام أحمد].
يا مؤمن، هل فكرت يوماً في قلبك, وخطورة الكلمة عليه؟ هل شعرت بخطر ما تتفوه به؟ هل أشغلك شأن قلبك، وحياتُه، وصحتُه؟ إنّ بعضنا لا يقدّر إلا الحياة الحسية، ولا يخاف إلا الأمراض الجسدية، وحتى هذه أسهمت الكلمات فيها, فكم سمعنا من سكتةٍ قلبيّة بسبب خبر منقول, أو كلام غيرِ مسؤول؟ كم مرضَ من قلبٍ بسبب ما يسمع الإنسان من القول المؤذي! إنّ هذا مالا ينكره أحد, وإذا مرض القلب، وفسد زاد انحراف اللسان وبلاؤه, فالتأثير متبادل, وإذا قلَّ الكلام صح القلب, وعندها لا يثمر إلا خيراً.
فهلاّ اعتنيت -أيها الفاضل- بهذين العضوين الخطيرين القياديين: القلب واللسان، فالمرْء بأصغريه قلبِه ولسانه.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، وقوّم اعوجاج ألسنتنا، واجعل عملنا في رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله صلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب: 56].
________________
(1) جامع البازعي بتبوك، 30/5/1431هـ.
(2) القصص:34.
(3) إبراهيم: 4.
(4) الرحمن: 1-4.
(5) النساء:114.
(6) سنن الترمذي - (ج 9 / ص 252).
(7) جمع الجوامع أو الجامع الكبير للسيوطي - (ج 1 / ص 4586).
(8) مسند أحمد - (ج 27 / ص 422) . |
خدمات المحتوى
| تقييم
|
|
|